فصل: الطرف الثالث فيما كان يكتب عن خلفاء بني العباس ببغداد إلى حين انقراض الخلافة العباسية من بغداد:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.الطرف الثالث فيما كان يكتب عن خلفاء بني العباس ببغداد إلى حين انقراض الخلافة العباسية من بغداد:

وهو على أربعة أنواع:
النوع الأول: ما كان يكتب لوزراء الخلافة:
وكان رسمهم فيه أن يفتتح بلفظ أما بعد فالحمد لله ويؤتى فيه بثلاث تحميداتٍ، وربما اقتصر على تحميدة واحدةٍ. وعلى ذلك كانت تقاليد وزرائهم من أرباب السيوف والأقلام.
وهذه نسخة تقليدٍ من ذلك كتب بها العلاء بن موصلايا، عن القائم بأمر الله، للوزير فخر الدولة بن جهير، في شهور سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة، وهو: أما بعد، فالحمد لله ذي الآلاء الصافية الموارد، والنعماء الصادقة الشواهد، والطول الجامع شمل أسباب المنح الشوارد، ذي القدرة المصرفة على حكمها مجاري القدر، والمشيئة الحالية بالنفاذ في حالتي الورد والصدر، المذل بجميل صنعه أعناق المصاعب، المديم بكريم لطفه من امتداد ذوائب النوائب، الذي جل عن إدراك صفاته بعد أو حد، ودل بباهر آياته على كونه الفرد الولي بكل شكر وحمد؛ سبحانه وتعالى عما يصفون.
والحمد لله الذي اختص محمداً صلى الله عليه وسلم بالرسالة واجتباه، وحباه الكرامة بما أشرق له مطلع الجلال، واختاره وبعثه لإظهار كلمة الحق بعد أن مد الضلال رواقه، فلم يزل بإعزاز الشرع قائماً، ولساعات زمانه في طلب رضا الله قاسماً، لا ينحرف عن مقاصد الصواب ولا يميل، ولا يخلي مطايا جده في تقوية الدين مما يتابع فيه الرسيم والذميل، إلى أن أزال عن القلوب صدأ الشكوك وجلا، وأجلى مسعاه عن كل ما أودع نفوس أحلاف الباطل وجلا، ومضى وقد أضاء للإيمان هلالٌ أمن سراره، وانتضى لإبادة الشرك حساماً لا ينبو قط غراه، فصلى الله عليه وعلى آله الطاهرين، وأصحابه المنتخبين، صلاةً يتصل الأصيل فيها بالغدو وترى قيمتها في الأجر وافية العلو والغلو.
والحمد لله الذي أصار إلى أمير المؤمنين من إرث النبوة ما هو أحق به وأولى وأنار له من مطالع العز ما أسدى به كل نعمةٍ وأولى، وأحله من شرف الإمامة بحيث عنت لطاعته أعناق الرقاب الصعاب، وأذعنت له القلوب بالانطواء على الولاء الفسيح الرحاب والشعاب، وجعل أيامه بالنضارة آهلة المغاني، متقابلةً أسماؤها في الحسن بالمعاني، فما يجري فيها إلا ما الصواب في فعله كامن، والحظ بابتهاج سبله كائن، إبانةً عن اقتران الرشد بعزائمه في حالتي العقد والحل، واقتراب مرام كل ما يحل من الصلاح في الدهر أفضل المحل.
ثم إنه يرى من إقرار الحقوق في نصابها، وإمرار حبال التوفيق في جانبها من الأطماع الممتدة إلى اغتصابها، ما يعرب عن الاهتداء إلى طرق الرشد، والاقتداء بمن وجد ضالة المراد حين نشد، ويقصد من تجديد العوارف، عند كل عالم بقدرها في الزمان عارف، ما يحلو جنى ثمره في كل أوان، ويحدو انتشار خبره على إعانة كل فكر في وصفه عنوان، فيتناقل الرواة ذلك ذلك غوراً ونجداً، وتلقى الهمم العلية ادخار الجمال به أنفع من كل قنيةٍ وأجدى، استمراراً على شاكلة تحلت بالكرم وحلت من الجلال في القلل والقمم، وحلت آثارها في إيلاء نفيس المنح وجزيل القسم.
ولما غدا منصب الوزارة موقوفاً على الذين طالما جزوا بهممهم نواصي الخطوب، وحازوا بذممهم المنال في مقاصد استشهدوا بها على إحراز كل فضيلة واستدلوا، وكفوا بكفايتهم أكف الفساد وردوا، وحازوا الفعال في كل ما سعوا له وجدوا، وخلا الزمان ممن ينهض بعبء هذا الأمر الجسيم، وتصبح أنباؤه فيه ذكية الأرج والنسيم- لم يبق غيرك ممن يستحق التخييم في عراصه، والتحكيم في اجتناء الفخر منه واستخلاصه، وكان القدر سبق بانفصالك عن الخدمة لا لضعف سريرة، ولا لقوة جريرة، ولا لكدر سيرة؛ وكيف وأنت المتفرد بالكمال، والمتجرد في كل مقام سلم حد تقربك فيه من حادث الكلال، ولك في الدولة الحقوق التي أعتدت لك من وقع الاستزادة مجناً، والمواقف التي اغتذت من درة الإحماد بما أين الظئر لها وأنا، والمقاصد التي أعدمت منك البدل، ولا انحرف لك منها مسعًى عن مناهج الإصابة ولا عدل، وتمكنت فيها من عنان التوفيق بما لا يجارى سيفك فيه قط، ولا يحسن له حال المسرى إليه المحط؛ والآثار التي أثارت من كوامن الرضا أفضل ما يذخر ويقتنى، وأنارت من دلائل الزلفى ما ينتجز به وعد المنى ويقتضى؛ لكن كان ذلك مسطوراً في الكتاب، وليتبين أنه لا عوض عنك في الاستحقاق للأمر والاستيجاب، لم يوجد لهذه الرتبة كفؤاً سواك، ولا ينزهها عن العطل غير رائق حلاك، فرأى أمير المؤمنين تسليم مقاليدها إليك إذ كنت أحق بها وأهلها، وممن يجمع بعد الشتات شملها، فطوقك من قلائدها ما هو بأعطافك ألصق، وبتمام أوصافك أليق: لتدرع من عز الوزارة جلباباً لا تخلق الأيام له جدة، ولا تزال السعود بما يؤول إلى دوام مدته ممتدة، وترتضع من لبان خلالها ما يقضي لك بأن تقف نفسها عليك، وتقف آمال الأمثال دون ما انتهت الغاية فيه إليك، وتعتمد فيما عدقه بك منها وناطه، ووفاك فيه حقوق النظر واشتراطه، بحكم توحدت في إحراز أدواتها التي لا يبلغ أحدٌ لك منها مدى، ولم يمد طامعٌ إلى مساجلتك فيها يدا- ما يرضي الله تعالى ويرضيه، ويخص ذكرك بالطيب ويحيطه فتفوز فوزاً كبيراً، وتعيد الساعي في إدراك شأوك ظالعاً حسيراً.
ثم إنه شفع هذه المنحة التي قمصك مجاسد فخرها بالوجوب، وعوضك فيها الدهر بحادث البشر عن سابق القطوب- بإيصالك إلى حضرته، وإدنائك من سدته، ومناجاتك بما يتيح لك امتطاء غارب المجد وصهوته، والاحتواء على خالص السعد وصفوته، وحبائك من صنوف التشريفات التي تروق حلى خلالها، وتتوق الآمال إلى إدراكها ومنالها؛ وصفت الكرامات التي وفت المنى بها بعد مطالها، ونفت القذى عن مقل مغضوضة بسوء فعال الأيام ومقالها، بما يوطئ عقبك الرجال، ويضيق على من يحأول مجاراتك المسرح والمجال؛ ولم يقتنع بذلك في حق النعمى التي أعداك فيها على الغير، وأغداك منها في ظلٍ من الأمن البادي الأوضاح والغرر، حتى ألحق بسماتك تاج الوزراء تنويهاً بذكرك في الزمان، وتنبيهاً على اختصاصك لديه بوجاهة الرتبة والمكان، فصار مكروه الأمور في محبوبها سبباً، وخبت نار كل من سعى في تضليل النظام وجيفاً وخبباً، حتى الآملون أن يجعلوا تخت الخلافة زمناً، وتصبح رباعه بعد النضارة دمناً، ليعقبهم ذاك نيل ما وصلت إليه الإمضاء لهذا العزم. وبالجملة فالسامة واقعةٌ من تتابع هذه الشكاوى، وقد كان الأحب أن لا يضمن الكتب النافذة سوى تعهد الأنباء، لا زال عرفها أرجاً من سائر الأرجاء والنواحي. لكن تأتي مجاري الأقدار، ودواعي الاضطرار، إلى ما يرنق ماء الإرادة والإيثار، والآن فقد بلغ الماء، وجلب من عدم الصبر الحناء، ولم يبق غير هزة دينيةٍ منك تكشف بها هذه المعرة، وتتحف منها أمير المؤمنين بما يتم لديه أكمل المسرة؛ فقم في ذلك مقام مثلك- وإن كان لا نظير لك يوجد- تحظ بما يمضي لك فيه استحقاق كل الحمد ويوجب؛ إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة تقليد من ذلك، كتب بها عن المسترشد- فيما أظن- لبعض وزرائه، وهي: أما بعد، فالحمد لله المنفرد بكبريائه، المتفضل على أوليائه، مجزل النعماء، وكاشف الغماء، ومسبغ العطاء، ومسبل الغطاء، ومسني الحباء، ومسدي الآلاء، الذي لا تؤوده الأعباء، ولا تكيده الأعداء، ولا تبلغه الأوهام، ولا تحيط به الأفهام، ولا تدركه الأبصار، ولا تتخيله الأفكار، ولا تهرمه الأعوام بتواليها، ولا تعجزه الخطوب إذا ادلهمت لياليها، عالم هواجس الفكر، وخالق كل شيء بقدر، مصرف الأقدار على مشيئته ومجريها، ومانح مواهبه من أضحى بيد الشكر يمتريها، حمداً يصوب حياه، ويعذب جناه، وتتهلل أسرة الإخلاص من مطاويه، ويستدعي المزيد من آلائه ويقتضيه.
والحمد لله الذي استخلص محمداً صلى الله عليه وسلم من زكي الأصلاب، وانتخبه من أشرف الأنساب، وبعثه إلى الخليقة رسولاً، وجعله إلى منهج النجاة دليلاً، وقد بوأ الشرك بوار الذل وقضاه وشهر عضب العز وانتضاه؛ والأمم عن طاعة الرحمن عازفة، وعلى عبادة الأوثان عاكفة، فلم يزل بأمر ربه صادعاً، وعن التمسك بعرا الضلال الواهية وازعاً، وإلى ركوب محجة الهدى داعياً، وعلى قدم الاجتهاد في إبادة الغواية ساعياً، حتى أصبح وجه الحق منيراً مشرقاً، وعوده بعد الذبول أخضر مورقاً، ومضى الباطل مولياً أدباره، ومستصحباً تتبيره وبواره، وقضى صلى الله عليه وسلم بعد أن مهد من الإيمان قواعده، وأحكم آساسه ووطائده، وأوضح سبل الفوز لمن اقتفاها، ولحب طريقها بعد ما دثرت صواها، فصلى الله عليه وعلى آله الطاهرين وصحبه الأكرمين، صلاةً متصلاً سح غمامها، مسفراً صبح دوامها.
والحمد لله على أن حاز لأمير المؤمنين من إرث النبوة ما هو أجدر بحيازة مجده، وأولى بفيض عده، ووطأ له من الخلافة المعظمة مهاداً أحفزته نحوه حوافز ارتياحه، وجذبته إليه أزمة راعه والتياحه، إلى أنأدرك من ذلك مناه، وألقى الاستقرار الذي لا يريم عصاه، وعضد دولته بالتأييد من سائر أنحائه ومراميه، وأعراضه ومغازيه، حتى افقت الدول المتقادمة إشراقاً، وأعطتها الحوادث من التغير عهداً وفياً وميثاقاً، وأضحت أيامه- أدامها الله- حاليةً بالعدل أجيادها، جاليةً في ميادين النضارة جيادها، وراح الظلم دارسةً أطلاله، مقلصاً سرباله، قد أنجم سحابه، وزمت للرحلة ركابه، فما يستمر منها أمرٌ إلا كان صنع الله سبحانه مؤيده، والتوفيق مصاحبه أنى يمم ومسدده، وهو يستوزعه- جلت عظمته- شكر هذه النعمة، ويستزيده بالتحدث بها من آلائه الجمة، ويستمد منه المعونة في كل أربٍ قصده وأمه، وشحذ لانتحائه عزمه، وما توفيقه إلا بالله عليه يتوكل وإليه ينيب.
ولما كانت الوزارة قطب الأمور الذي عليه مدارها، وإليه إيرادها وعنه إصدارها، وخلا منصبها من كافٍ يكون له أهلاً، وينظم من شماله شملاً، أجال أمير المؤمنين فيمن يختار لذلك فكره، وأنعم لأهل الاصطفاء لهذه المنزلة نظره حتى صرح محض رأيه عن زبدة اختيارك، وهداه صائب تدبيره إلى اقتراحك وإيثارك، وألقى إليك بالمقاليد، وعول في دولته القاهرة على تدبرك السديد، وناط بك من أمر الوزارة ما لم يلف له سواك مستحقاً، ولا لنسيم استيجابه مسترقاً، علماً بما تبديه كفايتك المشهورة، وإيالتك المخبورة، من تقويم ما أعجز مياده، وإصلاح ما استشرى فساده، واستقامة كل حالٍ وهي عمادها، وأضلت على كثرة الافتداح زنادها، وتثبتاً لما تبسم عنه الأيام من آثار نظرك المعربة عن احتوائك على دلائل الجزالة، واستيلائك على مخايل الأصالة، اللذين تنال بهما غايات المعالي، وتفرع الذرى والأعالي.
ثم إن أمير المؤمنين بمقتضى هذه الدعاوى اللازمة، وحرمات جدك وأبيك السالفة المتقادمة التي استحصدت في الدار العزيزة قوى أمراسها، وأدنت منك الآن ثمرة غراسها، رأى أن يشيد هذه العارفة التي تأرج لديك نسيمها، وبدت على أعناق فخرك رسومها، وجادت رباعك شآبيبها، وضفت عليك جلابيبها، بما يزيد أزرك اشتداداً، وباع أملك طولاً وامتداداً، فأدناك من شرف حضرته مناجياً، ومنحك من مزايا الأيام ما يكسبك ذكراً في الأعقاب سارياً، وعلى الأحقاب باقياً، وأفاض عليك من الملابس الفاخرة ما حزت به أوصاف الجمال، وجمع لك أباديد الآمال، وقلدك من الفخر ما يدوم على مر الزمان ويبقى وأمطاك صهوة سابح يساوي الرياح سبقاً، ووسمك بكذا وكذا في ضمن التأهيل للتكنية، إبانةً عن جميل معتقده فيك، ورعايةً لوسائلك المحكمة المرائر وأواخيك.
وأمرك بتقوى الله التي هي أحصن المعاقل، وأعذب المناهل، وأنفع الذخائر، يوم تبلى السرائر؛ وأن تستشعرها فيما تبديه وتخفيه، وتذره وتأتيه: فإنها أفضل الأعمال وأوجبها، وأوضح المسالك إلى الفوز برضا الله وألحبها، وأجلب الأشياء للسعادة الباقية، وأجناها لقطوف الجنان الدانية؛ عالماً بما في ذلك من نفع تتكامل أقسامه، وتتفتح عن نور الصلاح الجامع أكمامه، قال الله جلت آلاؤه، وتقدست أسماؤه: {وسارعُوا إلى مَغْفِرةٍ مِنْ ربِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها السَّمواتُ والأرضُ أُعِدَّتْ للمتَّقين} وقال تعالى حاضاً على تقواه، ومخبراً عما خص به متقيه وحباه، وكفى بذلك داعياً إليها، وباعثاً عليها: {إنَّ الله يُحِبُّ المتَّقين}.
وأمرك أن تتوخى المقاصد السليمة وتأتيها، وتتوخم الموارد الوخيمة وتجتويها، وأن تتبع بالحزم أفعالك، وتجعل كتاب الله تعالى إمامك الذي تهتدي به ومثالك، وأن تكف من نفسك عند جماحها وإبائها، وتصدها عن متابعة أهوائها، وتثني عند احتدام سورة الغضب عنانها، وتشعرها من حميد الخلائق ما يوافق إسرارها فيه إعلانها: فإنها لم تزل إلى منزل السوء المردية داعية، وعن سلوك مناهج الخير المنجية ناهية، قال الله تعالى: {إنَّ النَّفْس لأمَّارةٌ بالسُّوء إلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيم}.
وأمرك أن تتخير للخدمة بين يديك من بلوت أخباره، واستشففت أسراره، فعلمته جامعاً أدوات الكفاية، موسوماً بالأمانة والدراية، قد عركته رحا التجارب عرك الثفال وحلب الدهر أشطره على تصاريف الأحوال: ليكون أمر ما يولاه على منهج الاستقامة جارياً، وعن ملابس الخلل والارتياب عارياً، فلا يضع في مزلقةٍ قدماً، ولا يأتي ما يقرع سنه لأجله ندماً، وأن تمنح رعايا أمير المؤمنين من بشرك ما يعقل شوارد الأهواء، ويلوي إليك بأعناق نوافرها اللائي اعتصمن بالجماح والإباء؛ مازجاً ذلك بشدةٍ تستولي حميا رهبتها على القلوب، وتفل مرهفات بأسها صرف الخطوب، من غير إفراطٍ في استدامة ذلك يضيق نظامها به، ويغريها اتصاله باستشعار وعر الخطأ واستيطاء مركبه.
وأمرك أن تعذب مورد الإحسان لمن أحمدت بلاءه، وتحققت غناءه، واستحسنت أثره، وارتضيت عيانه وخبره، وتسدل أسمال الهوان على من بلوت فعله ذميماً، وألفيته بعراص الإساءة مقيماً، وإلى رباعها الموحشة مستأنساً مستديماً، كيلاً لكل امرئٍ بصاعه، واتباعاً لما أمر الله باتباعه، وتجنباً للإهمال الجاعل المحسن والمسيء سواء، والمعيدهما في موقف الجزاء أكفاء، فإن في ذلك تزهيداً لذوي الحسنى في الإحسان، وتتابعاً لأهل الإساءة في العدوان، ولولا ما فرضه الله على أمير المؤمنين من إيجاب الحجة، والفكاك من ربقة الاجتهاد ببلاغ المعذرة، لثنى عنان الإطالة مقتصراً، واكتفى ببعض القول مختصراً، ثقةً بامتناع سدادك ونهاك، أن يراك صواب الفعل حيث نهاك، واستنامةً إلى ما خولك الله من الرأي الثاقب، المطلع من خصائص البديهة على محتجب العواقب. فارتبط يا فلان هذه النعمى التي جادت ديمها مغانيك، وحققت الأيام بمكانتها أمانيك، بشكر ينطق به لسان الاعتراف، فيؤمن وحشي النعم من النفار والانحراف، واسلك في جمال السيرة، والاقتداء بهذه الأوامر المبينة المذكورة، جدداً يغري بحمدك الألسنة، ويعرب عن كونك من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، والله يصدق مخيلة أمير المؤمنين فيك، ويوزعك شكر ما أولاك ويوليك، ويجعل الصواب غرضاً لنبال عزائمه، ويذود عن دولته القاهرة كتائب الخطوب بصوارم السعد ولهاذمه؛ ويصل أيامه الزاهرة بالخلود، ويبسط على أقاصي الأرض ظله الممدود، ما استهل جفن الغيث المدرار، وابتسمت ثغور النوار، إن شاء الله تعالى.
النوع الثاني: مما كان يكتب لأرباب الوظائف من ديوان الخلافة ببغداد ما كان يكتب لأرباب الوظائف من أصحاب السيوف:
وهو على ضربين:
الضرب الأول: العهود:
وهي أعلاها رتبةً، وطرقتهم فيها أن تفتتح بلفظ: هذا ما عهد عبد الله ووليه فلانٌ أبو فلان الإمام الفلاني إلى فلان الفلاني حين عرف منه ويذكر بعض مناقبه، وربما تعرض لثناء سلطان دولته عليه. ثم يقال: فقلده كذا وكذا ثم يقال: وأمره بكذا ويأتي بما يناسب من الوصايا، ثم يقال: فتقلد كذا وكذا ثم يقال: هذا عهد أمير المؤمنين إليك، وحجته عليك أو نحو ذلك؛ ولا يؤتى فيه بتحميد في أول العهد ولا في أثنائه كما تقدم في عهود الخلفاء للملوك.
عهود أرباب السيوف، وهي عدة ولايات:
منها- النظر في المظالم.
وهذه نسخة عهدٍ كتب به أبو إسحاق الصابي، عن المطيع لله، إلى الحسين ابن موسى العلوي بتقليد المظالم بمدينة السلام، وهي:
هذا ما عهد عبد الله الفضل الإمام المطيع لله أمير المؤمنين، إلى الحسين بن موسى العلوي، حين اجتمع فيه شرف الأعراق، والأخلاق، وتكامل فيه يمن النقائب، والضرائب، وعرف أمير المؤمنين فيه فضل الكفاية والغناء، ورشاد المقاصد والأنحاء، في سالف ما ولاه إياه من أعماله الثقيلة التي لم يزل فيها محمود المقام، مستمراً على النظام، مصيب النقض والإبرام، سديد الإسداء والإلحام، زائداً على المزايدين، راجحاً على الموازين، فائتاً للمحاذين، مبراً على المبارين، فقلده النظر في المظالم بمدينة السلام وسوادها وأعمالها، وما يجري معها، ثقةً بعلمه ودينه، واعتماداً على بصيرته ويقينه، وسكوناً إلى أن الأيام قد زادته تحليماً وتهذيباً، والسن قد تناهت به تحنيكاً وتجريباً، وأن صنيعة أمير المؤمنين مستقرةٌ منه عند أكرم أكفائها، وأشرف أوليائها، برحمه المتاء الدانية، وحرمته الشامخة العالية، ومعرفته الثاقبة الداعية إلى التفويض إليه، الباعثة على التعويل عليه؛ وأمير المؤمنين يستمد الله في ذلك أحسن ما عوده من هدايةٍ وتسديد، ومعونةٍ وتأييد، وما توفيقه إلا بالله عليه يتوكل وإليه ينيب.
أمره بتقوى الله التي هي الجنة الحصينة، والعصمة المتينة، والسبب المتصل يوم انقطاع الأسباب، والزاد المبلغ إلى دار الثواب، وأن يستشعرها فيما يسر ويعلن، ويعتمدها فيما يظهر ويبطن، ويجعلها إمامه الذي ينحوه، ورائده الذي يقفوه، إذ هي شيمة الأبرار والأخيار، وكان أولى من تعلق بعلائقها، وتمسك بوثائقها، لمفخره الكريم، ومنصبه الصميم، واستظلاله مع أمير المؤمنين بدوحة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله- التي يكتنان في فنائها، ويأويان إلى أفيائها، وحقيقٌ على من كان منزعه، وإليها مرجعه، أن يكون طيباً زكياً طاهراً نقياً، عفيفاً في قوله وفعله. نظيفاً في سره وجهره، قال الله تعالى: {إنَّما يُرِيدُ اللهُ ليُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهلَ البَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهيراً}.
وأمره بتلاوة القرآن، وتأمل ما فيه من البرهان، وأن يجعله نصباً لناظره، ومألفاً لخاطره، فيأخذ به ويعطي، ويأتمر له يونتهي، فإنه الحجة الواضحة، والمحجة اللائحة، والمعجزة الباهرة، والبينة العادلة، والدليل الذي من اتبعه سلم ونجا، ومن صدف عنه هلك وهوى؛ قال الله عز من قائل: {وَإنَّهُ لَكِتابٌ عِزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِه تَنْزيلٌ مِنْ حَكِيم حَمِيد}.
وأمره أن يجلس للخصوم جلوساً عاماً، ويقبل عليهم إقبالاً تاماً، ويتصفح ما يرفع إليه من ظلاماتهم، وينعم النظر في أسباب محادثاتهم، فما كان طريقه طريق المنازعة المتعلقة بنظر القضاة وشهادت العدول رده إلى المتولي للحكم، وما كان طريقه الغصوب المحتاج فيها إلى الكشف والفحص، والاستشفاف والبحث، نظر فيه نظر صاحب المظالم، وانتزع الحق ممن غصب عليه، واستخلصه ممن امتدت له يد التعدي والتغرر إليه، وأعاده إلى مستحقه، وأقره عند مستوجبه، غير مراقب كبيراً لكبره، ولا خاصاً لخصوصه ولا شريفاً لشرفه، ولا متسلطناً لسلطانه، بل يقدم أمر الله جل ذكره في كل ما يأتي ويذر، ويتوخى رضاه فيما يورد ويصدر، ويكون على الضعيف المحق حدباً رؤوفاً حتى ينتصر وينتصف، وعلى القوي المبطل شديداً غليظاً حتى ينقاد ويذعن، قال الله جل وعز: {يَا دَاوُدُ إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفةً في الأرْضِ فاحْكُمْ بينَ النَّاسِ بالحقِّ ولا تَتَّبع الْهَوى فيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إنَّ الَّذينَ يَضِلُّون عَنْ سَبِيل اللهِ لهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بما نَسُوا يَوْمَ الحِسابِ}.
وأمره أن يفتح بابه، ويسهل حجابه، ويبسط وجهه، ويلين كنفه، ويصبر على الخصوم الناقصين في بيانهم حتى تظهر حجتهم، وينعم النظر في أقوام أهل اللسن والبيان منهم حتى يعلم مصيبهم فربما استظهر العريض المبطل بفضل بيانه، على العاجز المحق لعي لسانه؛ وهنالك يجب أن يقع التصفح على القولين، والاستظهار للأمرين: ليؤمن أن يزول الحق عن سننه ويزور الحكم عن طريقه؛ قال الله عز وجل: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبأٍ فَتَبيَّنُوا أنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالة فتُصْبِحوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نَادِمينَ}.
وأمره بأن لا يرد للقضاة حكماً يمضونه، ولا سجلاً ينفذونه، ولا يعقب ذلك بفسخ، ولا يطرق عليه النقض، بل يكون لهم موافقاً مؤازراً، ولأحكامهم عاضداً ناصراً، إذ كان الحق واحداً وإن اختلفت المذاهب إليه، فإذا وجد القصة قد سيقت، والحكومة قد وقعت، فليس هناك شك يوقف عنده، ولا ريبٌ يحتاج إلى الكشف عنه؛ وإذا وجد الأمر مشتبهاً، الحق ملتبساً، والتغرر مستعملاً، والتغلب مستجازاً، نظر فيه نظر الناصر لحق المحقين، الداحض لباطل المبطلين، المقوي لأيدي المستضعفين، الآخذ على أيدي المعتدين، قال الله عز وجل: {يا أيها الَّذينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسْطِ فاللهُ أولى بِهِمَا فلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أنْ تعْدِلُوا وإنْ تَلْوُوا أو تُعْرضُوا فإنَّ اللهَ كانَ بما تَعْمَلُونَ خَبِيراً}.
وأمره أن يستظهر على معرفته بمشاورة القضاة والفقهاء، ومباحثة الربانيين والعلماء؛ فإن اشتبه عليه أمرٌ استرشدهم، وإن عزب عنه صوابٌ استدل عليه بهم، فإنهم أزمة الأحكام، وإليهم مرجع الحكام، وإذا اقتدى بهم في المشكلات، وعمل بأقوالهم في المعضلات، أمن من زلة العاثر، وغلطة المستاثر؛ وكان خليقاً بالأصالة في رأيه، والإصابة في أبحاثه، وقد أمر الله- تقدست أسماؤه- بالمشاورة فعرف الناس فضلها، وأسلكهم سبلها بقوله لرسوله صلى الله عليه وعلى آله: {وشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ على اللهِ إنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَوكِّلين}.
وأمره أن يكتب لمن توجب له حق من الحقوق إلى صاحب الكوفة بالشد على يده والتمكن له منه، وقبض الأيدي عن منازعته، وحسم الأطماع في معارضته، إذ هو مندوبٌ لتنفيذ أحكامه، ومأمورٌ بإمضاء قضاياه، ومتى أخذ أحدٌ من الخصوم إلى مكاذبةٍ في حقٍ قد حكم عليه به، أخذ على يده وكفه عن عدوانه، ورده إلى حكم الله الذي لا يعدل عنه؛ قال الله عز وجل: {ومَنْ يَتعدَّ حُدُودَ الله فأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُون}.
هذا عهد أمير المؤمنين إليك، وحجته عليك؛ قد أرشدك وذكرك. وهداك وبصرك؛ فكن إليه منتهياً، وبه مقتدياً واستعن بالله يعنك، واستكفه يكفك.
وكتب الناصح أبو الطاهر في تاريخ كذا.
ومنها- نقابة الطالبيين: وهي المعبر عنها الآن بنقابة الأشراف.
وهذه نسخة عهد بنقابة الطالبيين كتب به أبو إسحاق الصابي، عن الطائع لله إلى الشريف أبي الحسن محمد بن الحسين العلوي الموسوي، مضافاً إليها النظر في المساجد وعمارتها، واستخلافه لوالده الشريف أبي أحمد الحسين بن موسى على النظر في المظالم والحج بالناس، في سنة ثمانين وثلثمائة، وهي: هذا ما عهد عبد الله عبد الكريم، الإمام الطائع لله أمير المؤمنين، إلى محمد بن الحسين بن موسى العلوي، حين وصلته به الأنساب، وقرنت لديه الأسباب، وظهرت دلائل عقله ولبابته، ووضحت مخايل فضله ونجابته، ومهد له بهاء الدولة وضياء الملة أبو نصر بن عضد الدولة ما مهد عند أمير المؤمنين من المحل المكين، ووصفه به من الحلم الرزين، وأشار به من رفع المنزلة، وتقديم الرتبة، والتأهيل لولاية الأعمال، وتحمل الأعباء والأثقال، وحيث رغبه فيه، سابقة الحسين أبيه في الخدمة والنصيحة، والمشايعة الصحيحة، والمواقف المحمودة، والمقامات المشهودة، التي طابت بها أخباره، وحسنت فيها آثاره، وكان محمدٌ متخلقاً بخلائقه، وذاهباً على طرائقه: علماً وديانة، وورعاً وصيانة، وعفةً وأمانة، وشهامة وصرامة، وتفرداً بالحظ الجزيل: من الفضل الجميل والأدب الجزل، والتوجه في الأهل، والإيفاء في المناقب على لداته وأترابه، والإبرار على قرنائه وأضرابه- فقلده ما كان داخلاً في أعمال أبيه من نقابة نقباء الطالبيين بمدينة السلام وسائر الأعمال والأمصار، شرقاً وغرباً، وبعداً وقرباً، واختصه بذلك جذباً بضبعه، وإنافة بقدره، وقضاءً لحق رحمه، وترفيهاً لأبيه، وإسعافاً له بإيثاره فيه، إلى ما أمر أمير المؤمنين باستخلافه عليه من النظر في المظالم، وتسيير الحجيج في أوان المواسم؛ والله يعرف أمير المؤمنين الخيرة فيما أمر ودبر، وحسن العاقبة فيما قضى وأمضى، وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله عليه يتوكل وإليه ينيب.
أمره بتقوى الله التي هي شعار المؤمنين، وسيما الصالحين، وعصمة عباد الله أجمعين؛ وأن يعتقدها سراً وجهراً، ويعتمدها قولاً وفعلاً، فيأخذ بها ويعطي، ويريش ويبري، ويأتي ويذر، ويورد ويصدر؛ فإنها السبب المتين، والمعقل الحصين، والزاد النافع يوم الحساب، والمسلك المفضي إلى دار الثواب، وقد حض الله أولياءه عليها، وهداهم في محكم كتابه إليها؛ فقال: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ولا تَمُوتُنَّ إلاَّ وأنْتُم مُسْلِمُونَ}. وقال تعالى: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وكُونُوا مَعَ الصَّادِقينَ}.
وأمره بتلاوة كتاب الله سبحانه مواظباً، وتصفحه مداوماً ملازماً، والرجوع إلى أحكامه فيما أحل وحرم، ونقض وأبرم، وأثاب وعاقب وباعد وقارب؛ فقد صحح الله برهانه وحجته، وأوضح منهاجه ومحجته، وجعله فجراً في الظلمات طالعاً، ونوراً في المشكلات ساطعاً، فمن أخذ به نجا وسلم، ومن عدل عنه هلك وهوى وندم. قال الله عز وجل: {وَإنَّهُ لكِتَابٌ عَزِيرٌ * لا يَأْتِيهِ الباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيم حَمِيدٍ}.
وأمره بتنزيه نفسه عما تدعو إليه الشهوات، وتتطلع إليه النزوات، وأن يضبطها ضبط الحكيم، ويكفها كف الحليم، ويجعل عقله سلطاناً عليها، وتمييزه آمراً ناهياً لها؛ فلا يجعل لها عذراً إلى صبوة ولا هفوة، ولا يطلق منها عناناً عند ثورة ولا فورة، فإنها أمارة بالسوء، منصبة إلى الغي؛ فالحازم يتهمها عند تحرك وطره وأربه، واهتياج غيظه وغضبه، ولا يدع أن يغضها بالشكيم، ويعركها عرك الأديم، ويقودها إلى مصالحها بالخزائم، ويعتقلها عن مقارفة المحارم والمآثم، كيما يعز بتذليلها وتأديبها، ويجل برياضتها وتقويمها، والمفرط في أمره تطمح به إذا طمحت، ويجمح معها أنى جمحت، ولا يلبث أن تورده حيث لا صدر، وتلجئه إلى أن يعتذر، وتقيمه مقام النادم الواجم، وتتنكب به سبيل الراشد السالم؛ وأحق من تحلى بالمحاسن، وتصدى لاكتساب المحامد، من ضرب بمثل سهمه في نسب أمير المؤمنين الشريف، ومنصبه المنيف، واجتمع معه في ذؤابة العترة الطاهرة، واستظل بأوراق الدوحة الفاخرة، فذاك الذي تتضاعف له المآثر إن آثرها، والمثالب إن أسف إليها، ولا سيما من كان مندوباً لسياسة غيره، ومرشحاً للتقليد على أهله، إذ ليس يفي بإصلاح من ولي عليه، من لا يفي بإصلاح ما بين جنبيه، وكان من أعظم الهجنة أن يأمر ولا يأتمر، ويزجر ولا يزدجر، قال الله عز وجل: {أتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالبِرِّ وتَنْسَوْنَ أنْفُسَكُمْ وأنْتُمْ تَتْلُونَ الكتابَ أفَلاَ تَعْقِلُونَ}.
وأمره بتصفح أحوال من ولي عليهم واستقراء مذاهبهم، والبحث عن بواطنهم ودخائلهم، وأن يعرف لمن تقدمت قدمه منهم وتظاهر فضله فيهم منزلته، ويوفيه حقه ورتبته، وينتهي في إكرام جماعتهم إلى الحدود التي توجبها أنسابهم وأقدارهم، وتقتضيها مواقفهم وأخطارهم: فإن ذلك يلزمه لشيئين: أحدهما يخصه وهو النسب الذي بينه وبينهم، والآخر يعمه والمسلمين جميعاً، وهو قول الله جل ثناؤه: {قُلْ لاَ أسْألُكُمْ عَلَيْه أجْراً إلاَّ المَوَدّة في القُربى} فالمودة لهم والإعظام لأكابرهم، والإشبال على أصاغرهم؛ واجب متضاعف الوجوب عليه، ومتأكد اللزوم له؛ ومن كان منهم في دون تلك الطبقة من أحداثٍ لم يحتنكوا، أو جذعانٍ لم يقرحوا، مجرين إلى ما يزري بأنسابهم ويغض من أحسابهم، عذلهم ونبههم، ونهاهم ووعظهم؛ فإن نزعوا وأقلعوا فذاك المراد بهم، والمقصود إليه فيهم، وإن أصروا وتتابعوا، أنالهم من العقوبة بقدر ما يكف ويردع؛ فإن نفع وإلا تجاوزه إلى ما يوجع ويلذع، من غير تطرق لأعراضهم، ولا انتهاكِ لأحسابهم، فإن الغرض منه الصيانة، لا الإهانة، والإدالة، لا الإذالة، وإذا وجبت عليهم الحقوق، أو تعلقت بهم دواعي الخصوم، قادهم إلى الإغفاء بما يصح منها ويجب، والخروج إلى سنن الحق فيما يشتبه ويلتبس؛ ومتى لزمتهم الحدود أقامها عليهم بحسب ما أمر الله به فيها، بعد أن تثبت الجرائم وتصح، وتبين وتتضح، وتتجرد عن الشك والشبهة، وتتجلى من الظن التهمة، فإن الذي يستحب في حدود الله أن تدرأ عن عباده مع نقصان اليقين والصحة، وأن تمضى عليهم مع قيام الدليل والبينة. قال الله عز وجل: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُون}.
وأمره بحياطة هذا النسب الأطهر، والشرف الأفخر، عن أن يدعيه الأدعياء، أو يدخل فيه الدخلاء؛ ومن انتمى إليه كاذباً، وانتحله باطلاً، ولم يوجد له بيتٌ في الشجرة، ولا مصداقٌ عند النسابين المهرة، أوقع به من العقوبة ما يستحقه، ووسمه بما يعلم به كذبه وفسقه، وشهره شهرةً ينكشف بها غشه ولبسه، وينزع بها غيره ممن تسول له مثل ذلك نفسه؛ وأن يحصن الفروج عن مناكحة من ليس لها كفؤاً، ولا مشاركها في شرفها وفخرها، حتى لا يطمع في المرأة الحسيبة النسيبة إلا من كان مثلاً لها مساوياً، ونظيراً موازياً، فقد قال الله تعالى: {إنَّمَا يُرِيدُ اللهُ ليُذْهِبَ عنْكُمُ الرِّجْسَ أهْل البَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}.
وأمره بمراعاة متبتلي أهله ومتهجديهم، وصلحائهم ومجاوريهم، وأراملهم وأصاغرهم، حتى يسد الخلة من أحوالهم، ويدر المواد عليهم، وتتعادل أقساطهم فيما يصل إليه من وجوه أموالهم، وأن يزوج الأيامى ويربي اليتامى، ويلزمهم المكاتب ليتلقنوا القرآن، ويعرفوا فرائض الإسلام والإيمان، ويتأدبوا بالآداب، اللائقة بذوي الأحساب: فإن شرف الأعراق، محتاجٌ إلى شرف الأخلاق؛ ولا حمد لمن شرف نسبه، وسخف أدبه، إذ كان لم يكسب الفخر الحاصل له بفضل سعيٍ ولا طلب، ولا اجتهادٍ ولا دأب، بل بصنعٍ من الله عز وجل له، ومزيد في المنة عليه، وبحسب ذلك لزوم ما يلزمه من شكره سبحانه على هذه العطية، والاعتداد بما فيها من المزية، وإعمال النفس في حيازة الفضائل والمناقب، والترفع عن الرذائل والمثالب.
وأمره بإجمال النيابة عن شيخه الحسين بن موسى فيما أمره أمير المؤمنين باستخلافه عليه من النظر في المظالم، والأخذ للمظلوم من الظالم، وأن يجلس للمترافعين إليه جلوساً عاماً، ويتأمل ظلاماتهم تأملاً تاماً؛ فما كان منها متعلقاً بالحاكم رده إليه، ليحمل الخصوم عليه، وما كان طريقه طريق الغشم والظلم، والتغلب والغصب، قبض عنه اليد المبطلة، وثبت فيه اليد المستحقة، وتحرى في قضاياه أن تكون موافقةً للعدل، ومجانبةً للخذل، فإن غايتي الحاكم وصاحب المظالم واحدة: وهي إقامة الحق ونصرته، وإبانته وإنارته، وإنما يختلف سبيلاهما في النظر: إذ الحاكم يعمل على ما ثبت وظهر، وصاحب المظالم يفحص عما غمض واستتر، وليس له مع ذلك أن يرد لحاكم حكومة، ولا يعل له قضية، ولا يتعقب ما ينفذه ويمضيه، ولا يتتبع ما يحكم به ويقضيه، والله يهديه ويسدده، ويوفقه ويرشده.
وأمره أن يسير حجيج بيت الله إلى مقصدهم، ويحميهم في بدأتهم وعودتهم، ويرتبهم في مسيرهم ومسلكهم، ويرعاهم في ليلهم ونهارهم، حتى لا تنالهم شدة، ولا تصل إليهم مضرة، وأن يريحهم في المنازل، ويوردهم المناهل، ويناوب بينهم في النهل والعلل، ويمكنهم من الارتواء والاكتفاء، مجتهداً في الصيانة لهم، ومعذراً في الذب عنهم، ومتلوماً على متأخرهم ومتخلفهم، ومنهضاً لضعيفهم ومهيضهم، فإنهم حجاج بيت الله الحرام، وزوار قبر الرسول عليه السلام، قد هجروا الأوطان، وفارقوا الأهل والإخوان، وتجشموا المغارم الثقال، وتعسفوا السهول والجبال، يلبون دعاء الله عز اسمه، ويطيعون أمره ويؤدون فرضه ويرجون ثوابه، وحقيقٌ على المسلم المؤمن أن يحرسهم متبرعاً، ويحوطهم متطوعاً؛ فكيف من تولى ذلك وضمنه، وتقلده واعتنقه، قال الله: {وللهِ على النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاع إليه سَبِيلاً}.
وأمره أن يراعي أمور المساجد بمدينة السلام وأطرافها، وأقطارها وأكنافها، وأن يجبي أموال وقوفها، ويستقصي جميع حقوقها، وأن يلم شعثها، ويسد خللها، بما يتحصل من هذه الوجوه قبله، حتى لا يتعطل رسمٌ جرى فيها، ولا تنقض عادةٌ كانت لها، وأن يثبت اسم أمير المؤمنين على ما يعمره منها، ويذكر اسمه بعده بأن عمرانها جرى على يديه، وصلاحها أداه قول أمير المؤمنين إلى فعله، فقد فسح له أمير المؤمنين بذلك تنويهاً باسمه، وإشادةً بذكره؛ وأن يولي ذلك من قبله من حسنت أمانته، وظهرت عفته وصيانته، فقد قال الله تعالى: {إنّما يَعْمُرُ مساجدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ واليَوْمِ الآخِرِ وأقَامَ الصَّلاةَ وآتى الزَّكاةَ ولَمْ يَخْشَ إلاَّ الله فَعَسى أُولئِكَ أنْ يَكُونُوا من المُهْتدين}.
وأمرهأن يستخلف على ما يرى الاستخلاف عليه من هذه الأعمال: في الأمصار الدانية، والبلاد القريبة والبعيدة، من يثق به من صلحاء الرجال، وذوي الوفاء والاستقلال، وأن يعهد اليهم مثل الذي عهد إليه، ويعتمد عليهم في مثل ما اعتمد عليه، ويستقري مع ذلك آثارهم، ويتعرف أخبارهم، فمن وجده محموداً أقره ولم يزله، ومن وجده مذموماً صرفه ولم يمهله، واعتاض منه من ترجى الأمانة عنده، وتكون الثقة معهودةً منه؛ وأن يختار لكتابته وحجبته والتصرف فيما قرب منه وبعد عنه، من يزينه ولا يشينه، وينصح له ولا يغشه، ويجمله ولا يهجنه، من الطبقة المعروفة بالظلف، المتصونة عن النطف، ويجعل لهم من الأرزاق الكافية، والأجرة الوافية، ما يصدهم عن المكاسب الذميمة، والمآكل الوخيمة، فليس تجب عليهم الحجة إلا مع إعطاء الحاجة، قال الله تعالى: {وأنْ لَيْسَ لِلإنْسانِ إلاَّ ما سَعى * وأنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى * ثُمَّ يُجْزاهُ الجَزَاءَ الأوْفى}.
وأمره بأن يكتب لمن يقوم ببينته عنده وتنكشف حجته له، إلى أصحاب المعاون بالشد على يديه، وإيصال حقه إليه، وحسم الطمع الكاذب فيه، وقبض اليد الظالمة عنه، إذ هم مندوبون للتصرف بين أمره ونهيه، والوقوف عند رسمه وحده.
وهذا عهد أمير المؤمنين إليك، وحجته لك وعليك، قد أنار فيه سبيلك وأوضح دليلك، وهداك وأرشدك وجعلك على بينة من أمرك، فاعمل به ولا تخالفه، وانته إليه ولا تتجاوزه، وإن عرض لك أمرٌ يعجزك الوفاء به، ويشتبه عليك وجه الخروج منه، أنهيته إلى أمير المؤمنين مبادراً، وكنت إلى ما يأمرك به صائراً، إن شاء الله تعالى. وكتب في مستهل شعبان سنة ثمانين وثلثمائة.
ومنها- ولاية الصلاة.
وهذه نسخة عهدٍ كتب بها أبو إسحاق الصابي عن الطائع لله، لأبي الحارث محمد بن موسى العلوي الموسوي، بتقليده الصلاة في جميع النواحي والأمصار والأطراف، وتوقف عن إظهاره لرأي رآه في ذلك، وهي:
هذا ما عهد عبد الله إلى محمد بن موسى العلوي، لما استكفاه النظر في نقابة الطالبيين فكفاه، وتحمل ذلك العبء فأغناه، وفات النظراء في الاستقلال والوفاء، وبذ الأمثال في الاضطلاع والغناء، جامعاً إلى شرف الأحساب والأعراق، شرف الآداب والأخلاق، وإلى كرائم المفاخر والمناقب، مكارم الطباع والضرائب، على الحداثة من سنه، والغضاضة من عوده، مستولياً من البراعة والنجابة، والفراهة واللبابة، على التي لا يبلغها الشيب المفارق، فضلاً عن البالغ المراهق، وغاياتٍ تنقطع دونها أنفاس المنافسين، وتتضرم عليها أحشاء الحاسدين؛ لا سيما وقد أطت بأمير المؤمنين إليه شواجن الأرحام، وعطفته على اصطناعه عواطف الآباء والأعمام، واقتضت آثاره المحمودة، وطرائقه الرشيدة، أن يناوبه على رتبة لم يبلغها أحدٌ من ولد أبيه، ولم يفترع ذوائبها رجلٌ دونه، فقلده الصلاة بمدينة السلام في خمسة جوامعها: فأولها الجامع الداخل في حريم أمير المؤمنين، وجامع الرصافة، وجامع المنصور، وجامع براثى، وجامع الكف الذي تولى أبوه إشادته وعمارته، وحسنت آثاره في إنشائه وإعلائه؛ وحيث سمت همته إليه، وبذل المجهود في إنفاق الأموال الدثرة عليه؛ واستنزل بذلك من الله أجزل إثابة المثابين، وأوفر أجر المأجورين، وجميع المنابر في شرق الأرض وغربها، وبعيد الأقطار وقريبها؛ وأمير المؤمنين يسأل الله حسن التسديد في ذلك وسائر مراميه، وجميع مطالبه ومغازيه، وجواري هممه التي يمضيها، وسرايا عزماته التي ينويها، وأن يجعل النجاح قائدها وسائقها، والصلاح أولها وآخرها؛ وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله عليه يتوكل وإليه ينيب.
أمره بتقوى الله التي هي أحرز المعاقل، وأحصن الجنن عند النوازل، وأعظم ملجإ يلجأ إليه، وآمن موئل يعول عليه، وأن يعتقدها في خلوته وحفلته، ويعتمدها في سره وعلانيته، ويجعلها سبباً يتبه، ولباساً يدرعه، فينازع بها من نازعه، ويوادع بها من وادعه: فإنها أوكد الأسباب، وأوصل القرب والأنساب، وأولى الناس بالتمسك بحبلها، والاشتمال بظلها، من كان بأجل المناسب تعلقه، وبأشرف الخلائق تخلقه؛ قال الله سبحانه: {إنَّمَا يُرِيدُ الله لَيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَيْت ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهيراً}.
وأمره بتلاوة القرآن، والمواظبة عليه والإدمان، والائتمار بما فيه من الأوامر، والازدجار عما تضمن من الزواجر، وأن يجعله الإمام المتبع فيقفوه، والطريق المهيع فيقصده وينحوه: فإنه العلم المنجي من الغواية، والدليل القائد إلى الهداية، والنور الساطع للظلام إذا أشكل مشكل، والحاكم القاضي بالحق إذا أعضل معضل، قال الله: {وإنَّه لَكِتابٌ عَزِيرٌ * لا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تنزيلٌ من حِكِيم حَمِيد}.
وأمره بتهذيب لبه، من جوامح الوساوس، وتطهير قلبه، من مطامح الهواجس، وأن يتوقى اللحظة العارمة، ويتجنب اللفظة المؤلمة، عاصياً جواذب الخلاعة، ومطيعاً أوامر النزاهة، حتى يستوي خافيه وعالنه، ويتفق ظاهره وباطنه، فعال من جعله إمام المسلمين إماماً، وقدمته الرعية أماماً، وكان إلى الله داعياً، وله عن عباده مناجياً، وبينهم وبين خالقهم وسيطاً، وعلى ما قلده من الصلاة بهم أميناً: لتصح شروط صلاته، ويقبل مرفوع دعواته؛ قال الله عز وجل: {وَمَنْ أحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إلى اللهِ وعَمِلِ صالِحاً وقال إنَّني من المُسْلِمِين}.
وأمره بالمحافظة على الصلوات، وانتهاز فرصها من الأوقات، والدخول فيها بالرقة والخشوع، والتوفر بالإخبات والخضوع؛ وحقيقٌ على كل مستشعرٍ شعار الإسلام، ومتجلببٍ جلباب الإيمان، أن يفعل ذلك مستوفياً شروطه ومستقصياً حدوده ورسومه، فكيف بمن أقامه أمير المؤمنين مقامه في امتطاء غوارب المنابر وذراها، ونصبه منصبه في أم الرعية أدناها وأقصاها. قال الله تعالى: {يا أيها الذِين آمنُوا اتَّقُوا الله وقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً}. وقال: {اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ولا تَمُوتُنَّ إلاَّ وأنْتُم مُسْلِمُونَ}.
وأمره بالسعي في الجمع إلى المساجد الجامعة، وفي الأعياد إلى المصليات الضاحية، وأن يخص أحدها بصلاته فيه وقصده له، ويأمر خلفاءه على الصلاة بالافتراق في سائر الجوامع وباقي المنابر، بعد الأمر بجمع المؤذنين والمكبرين، وإحضار القوام والمرتبين، في أتم أهبةٍ وأجمل هيئة، بقلوبٍ مستشعرة للخشوع، متصدية للدموع، وألسن بالتسبيح والتقديس منطلقة، وآمالٍ في حسن الجزاء وجزيل الثواب منفسحة، حتى تعبر ألسنتهم إذا افترعوا الخطب وافتتحوا الكلم عن مكنون ضمائرهم، ومضمون سرائرهم، فتجيء المواعظ بالغةً، والزواجر ناجعة؛ قال الله تعالى: {أتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وتَنْسَوْنَ أنْفُسَكُمْ وأنْتُمْ تَتْلُونَ الكتابَ أفَلاَ تَعْقِلُون}.
وأمره بمراعاة المساجد، وتعهد الجوامع؛ وسد خللها، ولم شعثها، فإنها مقاوم عزه وفخره، ومحاضر صيته وذكره، ومراكز أعلام الدين الخافقة، ومطالع شموس الإسلام الشارقة، ومواقف الحق المشهودة، وقواعد الإيمان الموطودة، مما لا يتضعضع أحدها إلا تضعضع من أركان الإسلام له ركن، ولا التات بعضها إلا التات من أعضاء الدين عضو؛ قال الله عز وجل: {إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ وأقامَ الصَّلاةَ وآتى الزَّكَاة ولَمْ يَخْشَ إلاَّ اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أنْ يكُونُوا من المُهْتدين}.
وأمره في خطبته بكثرة التحفظ، وعند افتتاحه واختتامه بطول التيقظ، فإن العيون به منوطة، والأعناق إليه ممدودة، والمسامع فاغرةٌ تتلقف ما يقوله، والقلوب فارغةٌ لحفظ ما يبديء وما يعيد؛ فقليل الزلل، في ذلك الموقف كثير، وصغير الخطل، في ذلك المقام كبير؛ والله تعالى يسدده إلى المحجة الوسطى، ويقف به على الطريقة المثلى، بمنه.
وأمره بالسكينة في انتصابه للصلاة الجامعة، وتقدمه لقضاء الفروض اللازمة، وأن يسكن في كل حد من حدودها في الركوع والسجود، والقيام والقعود، فإنه عليها محاسب، وبما يلحق من يأتم به في جميعها مطالب، وأن يفرع قلبه لما يتلوه من البيان، ويرفع صوته بما يمر به من قوارع القرآن، مرتلاً لقراءته، ومسترسلاً في تلاوته: ليشترك في سماعها الأقرب والأقصى، وينتفع بمواعظها الأبعد والأدنى، بعد إخلاص سره وانتزاعه، وتسويته في الطهور بين باديه وخافيه، وغائبه وحاضره، فليس بالطاهر عند الله تعالى من يصيب بالماء أطرافه، وأدرن بالخبائث شغافه؛ قال الله تعالى: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا إذا نُودِيَ للِصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فاسْعَوْا إلى ذِكْرِ اللهِ وذَرُوا البَيْعَ}. وقال: {إنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلى المُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً}.
وأمره أن يقيم الدعوة على منابر أعماله القاصية والدانية والغائبة والحاضرة لأمير المؤمنين، ثم للناهض عنه بالأعباء، والقائم دونه في البأساء والضراء، الذي غذي بلبان الطاعة، وانقاد بزمام المتابعة: بهاء الدولة، ولولاة الأعمال من بعده الذين يدعى لهم على المنابر، ما يكون منها على العادة الجارية فيها، فإنها دعوةٌ تلزم إقامتها، وكلمةٌ تجب إشادتها، إذ كانت متعلقة بطاعة الله عز وجل، وقد أوجبها الله تبارك وتعالى على كافة المسلمين وجميع المعاهدين، إذ يقول وهو أصدق القائلين: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا أطِيعُوا اللهَ وأطِيعُوا الرَّسُولَ وأُوِلي الأمْرِ مِنْكُمْ}؛ وعائدتها تعمهم، وفائدتها تشملهم، إذ كان صلاح الرعية مقروناً بصلاح راعيها، وفساد الأمة منوطاً بفساد واليها.
وأمره باستخلاف من يرى استخلافه على الصلاة في الأقطار والأطراف والنواحي والبلدان، وأن يختار من الرجال كل حسن البيان، مصقع اللسان؛ بليل الريق إذا خطب، بليغ القول إذا وعظ.
هذا عهد أمير المؤمنين إليك، وحجته لك وعليك؛ قد أعذر فيه وأنذر، وهدى من الضلالة وبصر، وأعلقك زمام رشدك وغيك، وقلدك عنان هلكك وفوزك، وخيرك في كلا الأمرين، ووقفك إزاء الطريقين؛ فإن سلكت أهداهما لم تلبث أن تعود غانماً، وإن ولجت أضلهما فغير بعيد أن تؤوب نادماً؛ واستعن بالله يعنك، واستزده من الكفاية يزدك، واستلبسه الهداية يلبسك، واستدلله على نجاح المطالب يدللك، إن شاء الله، والحمد لله وحده.
ومنها- نظر الأوقاف.
وهذه نسخة عهدٍ من ذلك، كتب بها أبو إسحاق الصابي عن الطائع لله- للحسين بن موسى العلوي، وهي: هذا ما عهد عبد الله عبد الكريم الإمام الطائع لله أمير المؤمنين، إلى الحسين بن موسى العلوي، حين طابت منه العناصر، ووصلته بأمير المؤمنين الأواصر؛ جمع إلى شرف الأعراق الذي ورثه، شرف الخلق الذي اكتسبه؛ ووضحت آثار دينه وأمانته، وبانت أدلة فضله وكفايته، في جميع ما أسنده أمير المؤمنين إليه من الأعمال، وحمله إياه من الأثقال، فأضاف إلى ما كان ولاه من ذلك النظر في الوقوف التي كانت يد فلانٍ فيها بالحضرة وسوادها، ثقةً بسداده، وسكوناً إلى رشاده، وعلماً بأنه يعرف حق الصنيعة، ويرعى ما يستحفظه من الوديعة، ويجري في المنهل الذي أحمده أمير المؤمنين بصواب الرأي فيما نحاه وتوخاه، ويؤمنه في عاقبته الندم فيما قضاه وأمضاه؛ وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله عليه يتوكل وإليه ينيب.
أمره بتقوى الله التي هي عماد الدين، وشعار المؤمنين، وأن يعتقدها في سره ونجواه، ويجعلها الذخيرة لأولاه وأخراه، ويتجنب الموانع المونية، ويتوقى الموارد المردية، ويغض طرفه عن المطامع المغوية، ويذهب بنفسه عن المطارح المخزية؛ فإنه أحق من فعل ذاك وآثره، وأولى من اعتمده واستشعره، بنسبه الشريف، ومفخره المنيف، وعادته المشهورة، وشاكلته المأثورة، وتلاوة كتاب الله الذي هو وعترة رسول الله الثقلان المخلفان في الأمة، وقد جمعته، وآخرهما الأنساب وجمعته والثاني عصمة أولى الألباب، وتوجهت حجة الله عليه بما يرجع من هذه الفضائل إليه، وأنه غصنٌ من دوحة أمير المؤمنين، التي تحداها الله بالإنذار قبل الخلائق أجمعين، إذ يقول لرسوله محمد صلى الله عليه وعلى آله: {وأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ}. وقد حض تبارك وتعالى على التقوى، ووعد عباده عليها الزلفى، فقال: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقين}.
وأمره بالاشتمال على ما أسنده إليه أمير المؤمنين من هذه الوقوف مستنفداً طوقه في عمارتها، مستفرغاً وسعه في مصلحتها، دائباً في استغلالها وتثميرها، مجتهداً في تدبيرها وتوفيرها، وأن يصرف فاضل كل وقف منها بعد الذي يخرج منه للنفقة على حفظ أصله، واستدرار حلبه، والمؤونة الراتبة للقوام عليه، والحفظة له، إلى أربابه الذي يعود ذلك عليهم في وجوهها التي سبل لها، ووقف عليها، واضعاً جميع ذلك مواضعه، موقعاً له مواقعه، خارجاً إلى الله من الحق فيه، مؤدياً الأمانة إليه، وأن يشهد على ألقابضين بما يقبضونه من وقوفهم، ويكتب البراآت عليهم بما يستوفونه من أموالهم، ويستظهر لنفسه بإعداد الشواهد والأدلة على ما ينفقه من أموال هذه الوقوف على مصالحه، ويصرفه منها إلى أهلها، ويخرجه منها في حقوقها وأبواب برها، وسائر سبلها ووجوهها، سالكاً في ذلك مذهبه المعروف في أداء الأمانة، واستعمال الظلف والنزاهة، معقباً على من كان ناظراً فيها من الخونة الذين لم يرعوا عهداً، ولم يتصونوا عن سحت المطاعم، وظلم المآثم.
وأمره باستكتاب كاتبٍ معروفٍ بالسداد، مشهورٍ بالرشاد، معلومٍ منه نصيحة الأصحاب، والضبط للحساب، وتفويض ديوان الوقوف وتدبيره إليه، وتوصيته بصيانة ما يشتمل عليه من أصول الأعمال وفروعها، وقليل الحجج وكثيرها، وأن يحتاط لأربابها في حفظ رسومها ومعاملاتها، وحراسة طسوقها ومقاسماتها، حتى لا يستمر عليها حيف يبقى أثره، ولا يتغير فيها رسمٌ يخاف ضرره، وأن ينصف الأكرة فيها والمزارعين، وسائر المخالطين والمعاملين، ولا يجشمهم حيفاً، ولا يسومهم خسفاً، ولا يغضي لهم عن حق، ولا يسمح لهم بواجب، خلا ما عادت السماحة به بزيادة عماراتهم، وتأليف نياتهم، واجتلاب الفائدة منهم والعائدة بهم؛ فإنه مؤتمن في ذلك كله أمانةً، وعليه أن يؤديها ويخرج عن الحق فيها.
وأمره باختيار خازنٍ حصيفٍ، قؤومٍ أمين، يخزن حجج هذه الوقوف وسجلاتها، وسائر دفاترها وحسباناتها؛ فإنها ودائع أربابها عنده، وواجبٌ أن يحتاط عليها جهده؛ فمتى شك في شرط من الشروط، أو حدٍ من الحدود، أو عارض معارض، أو شاغب مشاغب، في ايام نظره وأيام من عسى أن تنقل ولاية هذه الوقوف إليه، ويناط تدبيرها به، دفع ما يحدث من ذلك بهذه الحجج التي هي معارف البرهان، وقواعد البنيان، وإليها المرجع في كل بينة تنصر وتقام؛ وشبهة تدحض وتضام.
هذا عهد أمير المؤمنين إليك، ووثيقته الحاصلة في يديك؛ فاتبع آثار أوامره، وازدجر عن نواهيه وزواجره، واستمسك به تنج وتسلم، واعمل عليه تفز وتغنم، واسترشد الله يرشدك، واستهده يهدك، واستعن به ينصرك، وفوض إليه يعصمك؛ إن شاء الله تعالى.
الضرب الثاني: مما يكتب من ديوان الخلافة لأرباب السيوف: التقاليد:
وهي لمن دون أرباب العهود في الرتبة وليس لافتتاحها عندهم ضابطٌ.
وهذه نسخة تقليدٍ بحماية الكوفة، لأبي طريف بن عليان العقيلي، من إنشاء أبي إسحاق الصابي، وهي: قد رأينا تقليدك- أطال الله بقاءك- الحماية بالكوفة وأعمالها وما يجري معها ثقةً بشهامتك وغنائك، وسكوناً إلى استقلالك ووفائك، واعتقاداً لاصطناعك واصطفائك، وحسن ظنٍ بك في شكر ما يسدى إليك، ومقابلته بما يحق عليك، من الأثر الجميل فيما تولاه، والمقام الحميد فيما تستكفاه؛ فتول- أيدك الله- ذلك مقدماً تقوى الله ومراقبته، ومستمداً توفيقه ومعونته، واحرس الرعية في مساكنها، والسابلة في مسالكها، وادفع عن عملك ونواحيه أهل العيث جميعاً، واطلبهم طلباً شديداً، واطرقهم في مكامنهم، وتولج عليهم في مظانهم، ونكل بمن تظفر به منهم نكالاً تقيم به حكم الله عليهم، وحدوده في أمثالهم، وبالغ في ذلك مبالغةً تخيف الظنين وتوجسه، وتؤمن السليم وتؤنسه، وراع الأكرة والمزارعين حتى ينبسطوا في معايشهم، ويتصرفوا في مصالحهم، وتتيسر عواملهم في عماراتها، ومواشيهم في مسارحها؛ ومتى طردت لأحدٍ منهم طريدةٌ أو امتدت إليهم يدٌ عاتية، ارتجعت ما أُخذ له، ورددته بعينه أو قيمة مثله، وخفف عمن وليت عليه الوطأة، وارفع عنهم المؤونة والكلفة، وخذهم بالتناصف، واقبضهم عن التظالم، وامنع قويهم من تحيف المضعوف، وشريفهم من استضامة المشروف، وأولهم من عدلك وحسن سيرتك، واستقامة طريقتك، ما يتصل عليه شكرك، ويطيب به ذكرك، ويقتضي لك دوام الولاية، وتضاعف العناية.
واعلم بأنك فيما وليته من هذا الأمر متضمن للمال والدم، ومأخوذ بكل ما يهمك من ذمة ومحرم؛ فليكن اجتهادك في الضبط والحماية، واحتراسك من الإهمال والإضاعة، بحسب ذلك، واكتب بأخبارك على سياقتها، وآثارك لأوقاتها: ليتصل لك الإحماد عليها، والمجازاة عنها، إن شاء الله تعالى.
النوع الثالث مما كان يكتب لأرباب الوظائف من ديوان الخلافة ببغداد: ما كان يكتب لأرباب الوظائف ببغداد من أصحاب الأقلام:
وهي على ضربين:
الضرب الأول: العهود:
ورسمها على نحو ما تقدم في عهود أرباب السيوف، تفتتح بهذا ما عهد إلى آخر الترتيب المتقدم ذكره.
وهذه نسخة عهد بولاية قضاء حاضرة بغداد وسائر الأعمال؛ كتب به المسترشد بالله لقاضي القضاة أبي القاسم علي بن الحسين الزينبي، وهي:
هذا ما عهد عبد الله أبو منصور الفضل، الإمام المسترشد بالله أمير المؤمنين، إلى قاضي القضاة علي بن الحسين الزينبي: لما تأمل طريقته، وشحذ عقيدته، وأحمد مذاهبه، وارتضى ضرائبه، وتكاثرت دواعيه، وحسنت مساعيه، ووجده عند الاختبار، وفي مضمار الاعتبار، راجعاً إلى عقل رصين، ودينٍ متين، وأمانةٍ مشكورة، ونزاهة مخبورة، وورع ثمر المشرع، عارٍ من دنس المطمع، وعلم توفر منه قسمه، وأصاب فيه سهمه، وحين راعى فيه موروث شرف النسب، إلى شرف العلم المكتسب، مع ما سلف لبيته من الحرمات المرعية المتأكدة، والقربات المرضية المتمهدة، والسوابق المحكمة المرائر، الحميدة المبادئ والمصاير، فقلده قضاء القضاة بمدينة السلام وسائر الأمصار في الآفاق والأقطار، شرقاً وغرباً، وبعداً وقرباً، إنافةً به إلى ما أصبح له مستحقاً، واستمر استيجابه مسترقاً، وجذباً بضبعه إلى ما يتحقق نهوضه بأعبائه، وحسن استقلاله به وغنائه، واقتفاءً لآثار الأئمة الراشدين في إيداع الودائع عند مستحقها، وتفويض الأمور إلى أكفائها وأهلها، لا سيما أولياء دولتهم، وأغذياء نعمتهم، الذين كشفت عن سجف خبرتهم التجارب، ووردوا من الخلال الرشيدة أعذب المشارب، وانتهجوا الجدد الواضح، وتقبلوا الخلق الصالح؛ والله سبحانه يقرن عزائم أمير المؤمنين بالخيرة في كل رأي يرتئيه، وأمر يؤمه وينتحيه، ويصدق مخيلته في حال يأتيها، ويمضي عزمه فيها؛ وما توفيقه إلا بالله عليه يتوكل وإليه ينيب.
أمره بتقوى الله التي لا يسعد أحدٌ إلا بالتمسك بسببها، ولا يشقى إلا مع إضاعتها؛ فإنها الجناب المريع، والمعقل المنيع، والنجاة يوم الفزع الأكبر، والعدة النافعة في المعاد والمحشر، والعصمة الحأمية من نزعات الشيطان ومخايله، المنقذة من أشراكه وحبائله؛ وبها تمحص الأوزار، وتنال الأوطار، وتدرك المآرب، وتنجح المطالب؛ قال الله تعالى: {يا أيها الَّذينَ آمَنُوا إنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً ويُكَفِّرْ عَنْكُم سيِّئَاتِكم ويَغْفِرْ لَكُمْ واللهُ ذُو الفَضْل العَظِيم}.
وأمره باستشعار خشية الله سبحانه في قوله وفعله؛ واختلاف أطواره وأحواله، وتذكر ما هو قادمٌ عليه، ووافدٌ إليه: {يَوْمَ لا يَجْزِي والِدٌ عن وَلَده ولا مَوْلُودٌ هو جازٍ عنْ والِدِه شَيْئاً}، فلا يقوده الهوى إلى اتباع شهوة، أو إجابة داعي هفوة أو صبوة، إلا كان الخوف قادعه، والحذار مانعه، وأن يجعل التواضع والوقار شيمته، والحلم دأبه وخليقته، فيكظم غيظه عند احتدام أواره، واضطرام ناره، مجتنباً عزة الغضب الصائرة إلى ذلة الاعتذار، ومتوخياً في كل حالٍ للمقاصد السليمة الإيراد والإصدار، وأن يتأمل أحوال غيره تأمل من جعلها لنفسه مثالاً، واتخذها لنسجه منوالاً؛ فما استحسنه منها فيأتيه، وما كرهه فيجتويه، غير ناهٍ عما هو من أهله، ولا آمرٍ بما هو مجانبٌ لفعله؛ قال الله جلت عظمته: {أتَأمُرُون النَّاسَ بِالبِرِّ وتَنْسَوْنَ أنْفُسَكُمْ وأنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتابَ أفَلاَ تَعْقِلُون}.
وأمره بتلاوة كتاب الله مواظباً، والإكثار من قراءته دائباً، وأن يجعله إماماً يقتفيه، ودليلاً يتبعه فيهديه، ونوراً يستضيء به في الظلمات، وهادياً يسترشده عند اعتراض الشبهات، وموئلاً يستند إليه في سائر أحكامه، وحصناً يلجأ به في نقضه وإبرامه، عاملاً بأوامره، ومزدجراً بزواجره، ومنعماً نظره في محكم آياته، وصادع بيناته، ومعملاً فكره في خوض غماره، واستخراج غوامض أسراره؛ فإنه الحق الذي لا يجور متبعه، والمتجر الذي لا يبور مبتضعه، والمنار الذي به يقتدى، والمنهج الذي بأعلامه يهتدى، والمصدر الذي تغرى به الأمور في ملبس الإشكال، وتشرع معه الأحوال المستبهمة في ورود الوضوع السلسال، وينبوع الحكمة الذي ضرب الله فيه الأمثال، وفرق فيه بين الحرام والحلال، والهداية والضلال؛ قال الله سبحانه: {ونَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْياناً لكُلِّ شَيْءٍ وهُدًى ورحْمةً وبُشْرى للمُسْلِمِين}.
وأمره بدراسة السنن النبوية صلوات الله على صاحبها، والاقتداء بما جاءت به من مكارم الأخلاق التي ندب إليها، وحض عليها، وتتبع ما يتداخلها من الأخبار الجريحة، والروايات غير الصحيحة، والفحص عن طرقها وإسنادها، وتمييز قويمها وميادها، والبحث عن رواتها، منحوزها وثقاتها؛ فما ألفاه بريئاً من الطعن، آمناً من القدح والوهن، عارياً من ملابس الشك والارتياب، عاطلاً عن حلى الشبهة والاعتياب، اتبعه واقتفاه، وتمثله واحتذاه، وكان به حاكماً، ولأدواء الباطل باتباعه حاسماً، وما كان مترجحاً بين كفتي الشك واليقين، ولم تبد فيه مخايل الحق المبين، جعل الوقف حكمه، وردع عن العمل به عزمه، إلى أن يضح الحق فيه، فيعتمد ما يوجبه ويقتضيه: فإنه عليه السلام الداعي إلى الهدى، والرحمة التي عصم الله بها من عوادي الردى، والهادي الذي لم يفصل بين العمل بفرائض كتابه وسننه في قوله تقدست أسماؤه، وجلت آلاؤه: {وَمَا آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وما نَهَاكُمْ عَنْهُ فانْتَهُوا واتَّقُوا اللهَ إنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَاب}.
وأمره بإقامة الصلوات الخمس المفروضة في أوقاتها، والمبادرة إليها قبل فواتها، والإتيان بشرائطها المحدودة وأركانها.
وأمره بمجالسة العلماء، ومباحثة الفقهاء، ومناقشة ذوي البصيرة والفهم، والفطنة والحزم، ومشاورتهم في عوارض الأمور المشكلة، وسوانح الأحكام المستبهمة المعضلة، حتى يصرح محض رأيه وآرائهم عن زبدة الصواب، وتنتج أفكارهم باستجمامها نظراً شافياً بالجواب، رافعاً عنه منسدل الحجاب؛ وإن في ذلك ثلجاً للصدور، واستظهاراً في الأمور، واحترازاً من دواعي الزلل، واستمرار الخلل، وامناً من غوائل الانفراد، وحطاً للتعويل على الاستبداد؛ فلرب ثقةٍ أدت إلى خجل، وأمن أفضى إلى وجل؛ وما زالت الشورى مقرونةً بالإصابة، محكمةً عرى الحق وأسبابه، حارسةً من عواقب الندم، داعيةً إلى السلامة من زلة القدم؛ وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم، وأزلف محله لديه، بالاستظهار بالمشاورة مع عظم خطره، وشرف قدره؛ فقال: {وشَاوِرْهُمْ في الأْمْرِ فإذَا عَزَمْتَ فَتَوكَّلْ عَلَى اللهِ إنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلين}.
وأمره أن يختار للحكم الأماكن الفسيحة الأرجاء، الواسعة الفضاء، وينظر في أمور المسلمين نظراً تفتر ثغور العدل فيه، وتلوح خشية الله من مطاويه، فيوصل إليه كافة الخصوم، ويبرز لهم على العموم، غير مشددٍ حجابه، ولا مرتج دون المترافعين إليه بابه، وأن يولي كلاً من الإقبال عليه، وحسن الإصغاء إليه، ما يكون بينهم فيه مساوياً، ولهم في مجمع الموازاة حاوياً، ولا يعطي من التفاته إلى الشريف لشرفه، وذي الشارة الحسنة من أجل ثوبه ومطرفه، ما يمنعه من تقحمه العيون، وتترجم في خموله الظنون: فإن ذلك مطمع لذي الرواء في دفع الحق إذا وجب عليه، والتماس الباطل وإن ضعفت الدواعي إليه؛ مؤيسٌ لذي الخمول من الانتصار لحقه، وإن أسفر صبح يقينه ونطقت ألسنة أدلته؛ فالناس وإن تباينوا في الأقدار والقيمة، وتفاوتوا في الأرزاق المقسومة، فالإسلام لهم مجتمع، والحق أحق أن يتبع، وهم عند خالقهم سواءٌ إلا من ميزته التقوى، وتمسك بسببها الأقوى؛ قال الله تعالى: {إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أتْقَاكُمْ}. وقال تعالى: {إنْ يَكُنْ غَنِيّاً أو فَقيراً فاللهُ أوْلى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوى أنْ تَعْدلُوا وإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُوا فإنَّ اللهَ كانَ بما تَعْمَلُون خَبِيراً}.
وأمره أن يتأمل أحوال المترافعين إليه، والخصوم لديه، ويتطلب ما وقع نزاعهم لأجله في نص الكتاب، ويعدل إلى السنة عند عدمه من هذا الباب؛ فإن فقد من هذين الوجهين، فليرجع إلى ما اختاره السلف المهتدون، وأجمع عليه الفقهاء المجتهدون؛ فإن لم يلف فيه قولاً ولا إجماعاً، ولا وجد إليه طريقاً مستطاعاً، أعمل رأيه واجتهاده، وامتطى ركاب وسعه وجياده، مستظهراً بمشورة الفقهاء في هذه الحال، ومستخلصاً من آرائهم ما يقع عليه الاتفاق الآمن الاعتلال: {وَاللهُ يَقُولُ الحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيل}.
وأمره باستعمال الأناة عند الحكومات، واستماع الدعاوى والبينات، من غير سرعةٍ تحدث خطلاً، ولا إفراطٍ في التأني يورث مللاً، فإن الحق بين ذينك على شفا خطر، وظهر غرر، ولا سيما إذا كان أحد الخصمين منطيقاً، ينمق كلامه تنميقاً، فإنه يخلب ببلاغة نطقه مستمعه، ويغطي وجه الباطل بألفاظه الموشعة، فإذا اتفق لديه ما هذا سبله، شحذ له غرب فطنته، وأرهف غرار فكره وبصيرته، ومنح كلاً من الإنصات ما يجتلي وجه النصف منيراً، ويغدو لأشياع الجور مبيراً. وإن ذو اللسن روعه، وأوهمه أن الحق معه، بما يلفقه من كلام يقصر خصمه عن جوابه، ويحصر عن جداله واستيفاء خطابه، مع عدم البينة المشهودة، وتعذر الحجة الموجودة، استعاد كلامه واستنطقه، واستوضح مغزاه وتحققه، من غير إظهار إعجابٍ بما يذكره، ولا اغترارٍ بما يطويه وينشره، ولا إصغاءٍ يبدو أثر الرغائب من فحواه، ولا اختصاصٍ له بما يمنع صاحبه شرواه: لئلاً يولد ذلك له اشتطاطاً، ويحدث له انطلاقاً في الخصومة وانبساطاً؛ حتى إذا ابتسم الحق، وانتصر الصدق، وفلج أحدهما بحجته، ولحن ببينته، أقر الواجب في نصابه، وأداله من جنود الظلم وأحزابه، وأمضى الحكم فيه باعتزامٍ صادق، ورأيٍ محصد الوثائق، غير ملتفت إلى مراجعة الخصوم وتشاجرهم، وشكواهم وتنافرهم، اعتماداً للواجب، وانتهاجاً لجدد العدل اللاحب. قال الله تعالى: {يَا دَاوُدُ إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفةً في الأْرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالحَقِّ ولا تَتَّبعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيل اللهِ إنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَاب}.
وأمره إذا انتدب للقضاء أن يفرغ باله، ويقضي أمامه أوطاره وأشغاله، ويخلي من أحوال الدنيا سره، ويشرح لما هو بصدده صدره؛ فلا تنزع نفسه إلى تحصيل مأرب، ولا تتطلع إلى درك مطلب؛ فإن القلب إذا اكتنفته شجونه، وأحاطت به شؤونه، كان عرضة لتشعب أفكاره، وحمله على مركب اضطراره الجاري بضد إيثاره واختياره، حرياً بالتقصير عن الفهم والإفهام، والضجر عند مشتجر الخصام.
وأمره بالتثبت في الحدود، والاستظهار عند إقامتها بمن يسكن إلى قوله من الشهود، والاحتياط من عجل يحيط الحكم عن بيانه، أو ريثٍ يرجيه عند وضوحه وتبيانه، وأن يتجافى عما لم يصرح له بذكره وشرحه، ولا يسرع إلى تصديق ساعٍ وإن تشبه بالناصحين في نصحه، حتى يستبين له الحق فيمضيه، عاملاً بما يوجبه حكم الله فيه، وأن يدرأ من الحدود ما اعترضت الشبهة دليلة، وكانت شواهده مدخولة، ويقيم منها ما قامت شهوده، ولم يمكن إنكاره وجحوده؛ قال الله تعالى مكبراً لتجافيها، ومعظماً للتجوز فيها: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فأُولِئك هُمُ الظَّالِمُون}.
وأمره بتصفح أحوال الشهود المعدلين، المسموعة أقوالهم في أمور المسلمين وأحوال الدين، ومواصلة البحث عن طرائقهم، واستشفاف خلائقهم، مستخدماً في ذلك سره وجهره، وواصلاً بعوان دأبه فيه بكره؛ فمن علمه سليماً في فعله، غير ظنين في أصله، متحرياً في كسبه، مرضياً في مذهبه، حافظاً لكتاب الله سبحانه، متمسكاً من علم الشريعة بما يلوي عن مهاوي الخطإ عنانه، حالياً بالديانة المنيرة المطالع، حامياً نفسه عن الإسفاف إلى دنايا المطامع، حاوياً من الظلف والأمانة، والقدر والصيانة، والاحتراس والتحفظ، والتحرز والتيقظ، ما تميز به على أشكاله وأترابه، وطال مناكب أمثاله وأضرابه، فقد كملت صفاته، واقتضت تقديمه أدواته، ووجب أن يمضي كونه عدلاً، ويجعله لقبول الشهادة أهلاً؛ ومن رآه عن هذه الخلال مقصراً، وببعضها مستظهراً، وكان موسوماً بديانة مشكورة، ونزاهة مأثورة، رضي بذلك منه قانعاً، وحكم بقوله سامعاً. ومن كان عن هذين الفرقين نائياً، ولأحوالهم المبين ذكرها نافياً، ألغى قوله مطرحاً، ورد شهادته مصرحاً؛ فإن هؤلاء الشهود أعوان الحق على انتصاره، وحرب الباطل على تتبيره وبواره، ومحجة الحاكم إلى قضائه، ووزره الذي يستند إليه في سائر أنحائه؛ فإذا أعذر في ارتيادهم، واستفرغ وسعه في انتقادهم، فقد خرج من عهدة الاجتهاد، واستحق من الله جزاء المجتهد يوم التناد، ومتى غرر في ذلك توجهت اللائمة عليه، وكان قمناً بنسبة التقصير في الاحتياط إليه؛ والله يتولى السرائر، ويبلو خفيات الضمائر، قال سبحانه: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ من الشُّهَداء}. وقال جل ذكره: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ ويُسْألُونَ}.
وأمره أن يكل أمور اليتامى في أملاكهم وأموالهم، ومراعاة شؤونهم وأحوالهم، إلى الثقات الأعفاء، والكفاة الأتقياء، الذين لا تستهويهم دواعي الطمع، ولا يوردهم الإسفاف موارد الطبع، وأن يتتبع أمورهم ويتصفحها، ويشارفها بنفسه ويستوضحها، عالماً أنه عما في أيديهم مسؤول، فإن عذره في إهمال يتخلله غير مقبول؛ وهو سبحانه يقول: {إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أمْوالَ اليَتَامى ظُلْماً إنَّمَا يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ نَاراً وسَيَصْلَوْنَ سعيراً}.
وأن يوعز إليهم بالإنفاق على أربابها بالمعروف: لينتهجوا فيها جدد القصد المألوف؛ حتى إذا بلغوا الحلم، وأونس منهم الرشد وعلم، وساغ لهم التصرف في نفوسهم، ووثق منهم باستدرار معايشهم، دفع إليهم أموالهم محروسة، ووفاهم إياها كاملةً غير منقوصة، مستظهراً بالشهادة عليهم، والبراءة منها بتسليمها إليهم، اتباعاً لقوله تعالى: {وابْتَلُوا اليَتَامى حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فإنْ انَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إسْرَافاً وبِدَاراً أنْ يَكْبَرُوا ومَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ ومَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإذَا دَفَعْتُمْ إلَيْهِمْ أمْوالَهُمْ فَأشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللهِ حَسيباً}.
وأمره بتزويج الأيامى اللواتي فقدن الأولياء، واعتدى عليهن صرف الدهر وأساء، وأضر بهن طول الإرمال، وبدت عليهن آثار الخلة في الحال، فينكحهن أكفاءهن من الرجال، ويتم عقد نكاحهن على مهور الأمثال.
وأمره بتفويض أمر الوقوف الجارية في نظره إلى من يأمنه ويختاره، وتقرن بإعلانه في ارتضائه أسراره: من أهل التجربة والحياء، ذوي الاضطلاع والغناء؛ فإنهم أقل إلى المطامع تشوفاً، وأبعد في عواقب الأمور نظراً وتلطفاً؛ وأن يوسع عليهم في الأرزاق، فيوصلها إليهم مهنأة عند الوجوب والاستحقاق، فبذلك يملك المرء نفسه ويستصلحها، ويتجنب مواقف التهم ويطرحها، وتجب عليه الحجة إن ثلم أمانةً، أو قارف خيانةً، مستظهراً بترتيب المشرفين الذين خبر أحوالهم، وسبر أفعالهم.
وأن يتقدم إلى المستنابين قبله بالإنفاق عليها حسب الحاجة من محصولها، حافظاً بما تعمده من ذلك لأصولها، وجباية ارتفاعها من مظانها، والتماس حقوقها في أوانها، وصرفها في وجوهها التي شرطها واقفوها، وعين عليها أربابها وأهلوها، غير مخلٍ مع ذلك بالإشراف والتطلع، ولا مهمل للفحص والتبلغ؛ فمن ألفاه حميد الأثر، ورضي العيان والخبر، عول عليه، وفوض مستنيماً إليه، ومن وجده قد مد إلى خيانةٍ يده استبدل به وعزله، جزاءً بما فعله: {إنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أثِيما}.
وأمره أ، يستخلف على ما نأى عنه من البلاد من جمع إلى الوقار الحلم، وإلى الدراية الفهم، وإلى التيقظ الاستبصار، وإلى الورع الاستظهار: ممن لا يضيق بالأمور ذرعاً، ولا تحدث له مراجعة الخصوم ضجراً ولا تبرماً، ولا يتمادى في أسباب الزلة، ولا يقصر عن الرجوع إلى الحق إذا اتضح له، ولا يكتفي بأدنى معدلة عن بلوغ أقصاها، ولا تتهافت نفسه على طاعة هواها، ولا يرجئ الأخذ بالحجة عند انكشافها، ولا يعجل بحكم مع اعتراض الشبهة واكتنافها، ولا يستميله إغراء، ولا يزدهيه مدح وإطراء، وأن يعهد بمثل ما عهد أمير المؤمنين إليه، ويعذر في الإجهاد بإيجاب الحجة عليه: ليبرأ من تبعة بادرةٍ عساه يأتيها، أو مزلقة تناديه فيهب ملبياً لداعيها؛ قال الله تعالى: {وتَعَاوَنُوا عَلى البِرِّ والتَّقْوى وَلاَ تَعَاوَنُولا عَلى الإْثْم والعُدْوَانِ واتَّقُوا اللهَ إنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَاب}.
وأمره أن يمضي ما أمضاه الحكام قبله ولا يتعقب أحكامهم بتأويل، مجتنباً تتبع عثراتهم، والبحث عن هفواتهم؛ ومهما رفع إليه من ذلك مما الإجماع عليه موافق، ولسان الكتاب والسنة به ناطق، أمضاه وحكم به، وإن كان مبايناً لمذهبه: فإن الحكومات كلها ماضيةٌ على اختلاف جهاتها، مستمرةٌ على تنافي صفاتها، محمية عن التأويل والتعليل، محروسةٌ من التغيير والتبديل، ما كان لها مخرجٌ في بعض الأقوال، أو وجد لها عند الفقهاء احتمال، إلا أن يكون الإجماع منعقداً على ضدها، آخذاً بإلغائها وردها، فيستفرغ في إيضاحها جهده، وينفق في تلافيها من الاستطاعة وجده، حتى يعيدها إلى مقرها من الواجب، ويمضيها على الحق اللازب، قال الله عز وجل: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالمُونَ}.
وأمره أن يتنخذ كاتباً بالظلف موسوماً، وبأدق ما يناط به قؤوماً، خبيراً بما يسطره، عالماً بما يذكره، عارفاً بالشروط والسجلات، وما يتوجه نحوها من التأويلات، ويتداخلها من الشبه والتلبيسات، مطلعاً على أسرارها وعللها، وتصاريف حيلها، متحرزاً في كل حال، متنزهاً عن مذموم الفعال، متخذاً خشية الله شعاراً، مسبلاً دون عصيانه من التقى أستاراً: فإنها نظاماته التي يرجع إليها، ويده التي يبطش بها ويعول عليها؛ ومتى لم يكن له من نفسه وازع، ولا من عقله ودينه رادع، لم يؤمن أن تدب عقاربه ليلاً، ويسحب على الغوائل والموبقات ذيلاً، فيعم الضرر بمكانه، ويشرع أذاه إلى المسلمين حد سنانه. وأن يتخير حاجباً طاوياً كشحه دون الأشرار، جامعاً لأدب الأخيار، مدرعاً جلباب الحياء، طلق الوجه عند اللقاء، سهل الجانب لينه، مستشعر الخير متيقنه، غير متجهم للناس، ولا معاملهم بغير البشاشة الإيناس، فإنه الباب إليه، والمعتمد في لقائه عليه؛ فلينتخبه انتخاب من علم أن حسن الثناء خير زاد، وأنفس ذخر وعتاد، ورأى طيب المحمدة أجمل كسب مراد، وحظٍ مجسد مستفاد. ومتى كان عن هذه الخلال متخلياً، وبخلافها متحلياً، اعتاض عنه بمن هو أسلم غيباً، وآمن ريباً، وأنقى جيباً، وأقل عيباً، قال الله سبحانه: {وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ المُضِلِّينَ عَضُداً}.
وأمره أن يتسلم ديوان القضاء وما فيه من الحجج والسجلات، والوثائق والكفالات، والمحاضر والوكالات، بمحضر من العدول ليكونوا له مشاهدين، وعليه شاهدين، وأن يجعل خزانها من يرتضيه، باجتماع أدوات الخير فيه، عاملاً في حفظها بما تقتضيه الأمانة التي أشفقت السموات والأرض والجبال منها، وأقررن بالعجز عنها، متحرياً من أمر يبوء معه بالأثام، في دار المقام؛ قال الله تعالى: {إنَّا عَرَضْنَا الأمانَةَ على السَّمواتِ والأرضِ والجِبَالِ فَأبَيْنَ أنْ يَحْمِلْنَها وأشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإْنْسانُ إنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً}.
وأمره بمراعاة أمر الحسبة فإنها أكبر المصالح وأهمها، وأجمعها لنفع الناس وأعمها، وأدعاها إلى تحصين أموالهم، وانتظام أحوالهم؛ وحسم مواد الفساد، وكف يده عن الامتداد، وأن يتقدم إلى المستناب فيها بمداومة الاطلاع على كمية الأسعار، والفحص عن مادة المخلوقات في الانقطاع والاستمرار، ومواصلة الجلوس في أماكن الأقوات ومظانها: ليكون تسعيرها بمقتضى زيادتها ونقصانها، غير خارج في ذلك عن حد الاعتدال، ولا مائلٍ إلى ما يجحف بالفريقين من إكثار وإقلال، وأن يراعي عيار المكاييل والموازين، ليميز ذوي الصحة من المطففين، فيقول لمن حسن اعتباره مرحى ويقابل من ساء اختباره بما يجعله لأمثاله رادعاً، حتى يزنوا بالقسطاس المستقيم، ويتجنبوا التطفيف بقلب من إضمار المعاودة سليم؛ قال الله تعالى: {وَيْلٌ للمطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إذا اكْتالُوا عَلى النَّاسِ يَسْتَوْفُون * وَإذَا كَالوُهُمْ أوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * ألا يَظُنُّ أُولئِكَ أنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العَالَمِين}.
هذا عهد أمير المؤمنين إليك، وحجته عند الله تعالى عليك؛ وقفك فيه على منهج الصلاح، وأعلقك منه إن اتبعته بأسباب النجاح، وأدر به عليك خلف السعادة إن أمريته بيد القبول، وجمع لك مع احتذائه بدائد المأمول، وعطف لديك متى تمثلته شوارد السول، وأوجدك ضالة متاعك إن أصغيت إليه سامعاً مطيعاً، وأعاد إن ائتمرت بأوامره شمل أقوالك جميعاً، وأرادك مرعى النجاة إن نهضت بأعبائه مريعاً، لم يدخرك فيه شفيفاً، ولا حقرك إرشاداً وتعريفاً، خلع به ربقة الأمانة عن عنق اجتهاده، وأوضح لك ما يسأل غداً عن فعله واعتماده.
فبادر إلى العمل به مسرعاً، وقم بالمجدود فيه مضطلعاً، واعلم أن لكل عالم هفوة، ولكل جواد كبوة؛ فاغضض عن مطامح الهوى طرفك، واثن عن أضاليل الدنيا الغرارة عطفك، واخش موقفاً تشخص فيه الأبصار، وتعدم الأعوان والأنصار، يوم ينظر المرء ما قدمت يداه، وتنقطع الوسائل إلا ممن أطاع الله وأتقاه، ينعم عوفك، ويأمن يوم القيامة خوفك؛ ومهما عرض لك من شبهة لم تلف مخرجاً منها، ولا صدراً عنها، ولا وجدت لسقبها هناء، ولدائها شفاء، فطالع حضرة أمير المؤمنين بحالها مستعلماً، وأنهها إليه مستفتحاً باستدعاء الجواب عما أصبح لديك مستغلقاً مبهماً، يمددك منه بما يريك صبح الحق منبلجاً، وضيق الشك منفرجاً، عن علم عنده البحر كالقياس، إلى أوشال الناس؛ والله تعالى يعضد آراء أمير المؤمنين بالصواب، ويمده بالتوفيق في سائر الآراب، ويقود لمراده أزمة جوامحها الصعاب، ما أنجم سحاب، وأثجم رباب، بمنه وسعة فضله.
وهذه نسخة عهدٍ بولاية القضاء بسر من رأى، كتب بها أبو إسحاق الصابي، عن الطائع لله، للقاضي أبي الحسين محمد ابن قاضي القضاة أبي محمد عبيد الله، بن أحمد بن معروف، حين ولاه القضاء بسر من رأى وغيرها، وما أضيف إلى ذلك من أعمال الجزيرة، وهي:
هذا ما عهد عبد الله عبد الكريم، الإمام الطائع لله أمير المؤمنين، إلى محمد ابن قاضي القضاة عبيد الله بن أحمد، حين عرفت الفضيلة فيه، وتقيل مذاهب أبيه، ونشأ من حصنه في المنشإ الأمين، وتبوأ من سببه ونسبه المتبوأ المصون، ووجده أمير المؤمنين مستحقاً لأن يوسم بالصنيعة، والمنزلة الرفيعة، على الحداثة من سنه، والغضاضة من عوده، سامياً به في ذلك إلى مراتب أعيان الرجال، التي لا تدرك إلا مع الكمال والاكتهال: لما آنس من رشده ونجابته، واستوضح من عقله ولبابته، واسترجح من وقاره وحلمه، واستغزر من درايته وعلمه، وللذي عليه شيخه قاضي القضاة عبيد الله بن أحمد من حصافة الدين، وخلوص اليقين، والتقدم على المتحلين بحليته، والمنتحلين لصناعته، والاستبداد عليهم بالعلم الجم، والمعنى الفخم، والافتنان في المساعي الصالحة التي يسود أحدهم بأحدها، ويستحق التجاوز لهم من استوعبها بأسرها، وبالثقة والأمانة، والعفة والنزاهة، التي صار بها علماً فرداً، وواحداً فذاً، حتى تكلفها من أجله من ليست من طبعه ولا سنخه، فهو المحمود بأفعاله التي اختص بها وبأفعال غيره ممن حذاه فيها، وبما نفق من بضائع الخير بعد كسادها، وبالسابقة التي له في خدمة المطيع لله أولاً ثم خدمة أمير المؤمنين ثانياً، فإنها سابقة شائعٌ خبرها، وجميلٌ أثرها، قويةٌ دواعيها، متمكنة أواخيها، وللمكانة التي خص بها من أمير المؤمنين ومن عز الدولة أبي منصور مولى أمير المؤمنين أيده الله ومن نصير الدولة الناصح أبي طاهر رعاه الله، ومن عظماء أهل حوزتهم، وأفاريق عوامهم ورعيتهم؛ فلما صدق محمد فراسة أمير المؤمنين ومخايله، واحتذى سجايا أبيه وشمائله، وحصل له ما حصل من الحرمات المتأثلة، والموات المتأصلة، أحرز من الأُرة على قرب المدى، ما لا يحرزه غيره على بعد المرمى، واستغنى أمير المؤمنين فيه عن طول التجربة والاختبار، وتكرر الامتحان والاعتبار، فقلده الحكم بين أهل سر من رأى، وتكريت، والطبرهان، والسن، والبوازيج، ودقوقا، وخانيجار، والبندنيجين، وبوحسأبور، والراذانين، ومسكن وقطربل، ونهربوق، والدبين، وجميع الأعمال المضافة إلى ذلك والمنسوبة إليه، وشرفه بالخلع والحملان، وضروب الإنعام والإحسان، وكان فيما أعطاه من هذا الصيت والمجد، ونحله إياه من المفخر العد، مبتغياً ما كسبه من الله الرضا والزلفى، والسلامة في الفاتحة والعقبى، وراعياً لما يوجبه لقاضي قضاته عبيد الله بن أحمد من الحقوق التي أخفى منها أكثر مما أبدى، وأمسك عن أضعاف ما أحصى، وذاهباً على آثار الأئمة المهديين، والولاة المجتهدين، في إقرار ودائعهم عند المرشحين لحفظها، المضطلعين بحملها، من أولاد أوليائهم، وذرية نصحائهم: إذ كان لا بد للأسلاف أن تمضي، وللأخلاف أن تنمي، كالشجر الذي يغرس لدناً فيصير عظيماً، والنبات الذي ينجم رطبا فيصير هشيماً؛ فالمصيب من تخير الغرس من حيث استنجب الشجر، واستحلى الثمر، وتعمد بالعرف من طاب منه الخبر، وحسن منه الأثر؛ وأمير المؤمنين يسأل الله تعالى تسديداً تحمد عائدته، وتدر عليه مادته، ويتولاه في العزائم التي يعزمها، والأمور التي يبرمها، والعقود التي يعقدها، والأغراض التي يعتمدها؛ وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله عليه يتوكل وإليه ينيب.
أمره باعتماد التقوى، فإنها شعار أهل الهدى، وأن يراقب الله مراقبة المتحرز من وعيده، والمتنجز لمواعيده، ويطهر قلبه من موبقات الوساوس، ويهذبه من مرديات الهواجس، ويأخذ نفسه بمآخذ أهل الدين، ويكلفها كلف الأبرار المؤمنين ويمنعها من أباطيل الهوى، وأضاليل المنى؛ فإنها أمارةٌ بالسوء، صبةٌ إلى الغي، صادةٌ عن الخير، صادفة عن الرشد، لا ترجع عن مضارها إلا بالشكائم، ولا تنقاد إلى منافعها إلا بالخزائم؛ فمن كبحها وثناها نجاها، ومن أطلقها وأمرجها أرداها. وأولى من جعل تقوى الله دأبه وديدنه، والخيفة منه منهاجه وسننه، من ارتدى رداء الحكام، وأمر ونهى في الأحكام، وتصدى لكف الظالم، ورد المظالم، وإيجاب الحدود ودرئها، وتحليل الفروج وحظرها، وأخذ الحقوق وإعطائها، وتنفيذ القضايا وإمضائها: إذ ليس له أن يأمر ولا يأتمر، ويزجر ولا يزدجر، ويأتي مثل ما ينهى عنه، وينهى عما يأتي مثله، بل هو محقوق بأن يصلح ما بين جنبيه، قبل أن يصلح ما رد أمره إليه، وأن يهذب من نيته، ما يحأول أن يهذب من رعيته، قال الله تعالى: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إلاَّ وأنْتُمْ مُسْلِمُون:}{فاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُها الناسُ والحِجارَةُ أُعِدَّتْ للْكافِرِين}.
وأمره بالإكثار من تلاوة القرآن الواضح سبيله، الراشد دليله، الذي من استضاء بمصابيحه أبصر ونجا، ومن أعرض عنها زل وغوى، وأن يتخذه إماماً يهتدي بآياته، ويقتدي ببيناته، ومثالاً يحذوا عليه، ويرد الأصول والفروع إليه؛ فقد جعله الله حجته الثابتة الواجبة، ومحجته المستبينة اللاحبة، ونوره الغالب الساطع، وبرهانه الباهر الناصع؛ وإذا ورد عليه معضل، أو غم عليه مشكل، اعتصم به عائذاً، وعطف عليه لائذاً؛ فبه يكشف الخطب، ويذلل الصعب، وينال الأرب، ويدرك المطلب، وهو أحد الثقلين اللذين خلفهما رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فينا، ونصبهما معلماً بعده لنا، قال الله تعالى: {إنَّا أنْزلْنَا إلَيْكَ الكتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناسِ بِمَا أراكَ اللهُ وَلاَ تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصيماً}. وقال تعالى: {وإنَّه لَكِتابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الباطِلُ مِنْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلاَ منْ خَلْفه تَنْزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيد}.
وأمره بالمحافظة على الصلوات، وإقامتها في حقائق الأوقات، وأن يدخل فيها أوان حلولها بإخلاص من قلبه، وحضور من لبه، وجمع بين لفظه ونيته، ومطابقةٍ بين قوله وعمله، مرتلاً للقراءة فيها، مفصحاً بالإبانة لها، متثبتاً في ركوعها وسجودها، مستوفياً لحدودها وشروطها، متجنباً فيها جرائر الخطإ والسهو، وعوارض الخطل واللغو: فإنه واقف بين يدي جبار السماء والأرض، ومالك البسط والقبض، والمطلع على خائنة كل عين وخافية كل صدر، الذي لا تحتجب دونه طوية، ولا تستعجم عليه خبية، ولا يضيع أجر محسن، ولا يصلح عمل مفسد؛ وهو القائل عز وجل: {وَأقِمِ الصَّلاَة إنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عن الفَحْشاءِ والمُنْكَر}.
وأمره بالجلوس للخصوم، وفتح بابه لهم على العموم، وأن يوازي بين الفريقين إذا تقدما إليه، ويحاذي بينهما في الجلوس بين يديه، ويقسم لهما أقساماً متماثلةً من نظره، وأقساطاً متعادلةً من كلمه: فإنه مقام توازن الأقدام، وتكافؤ الخواص والعوام، لا يقبل على ذي هيئة لهيئته، ولا يعرض عن دميم لدمامته، ولا يزيد شريفاً على مشروف، ولا قوياً على مضعوف، ولا قريباً على أجنبي، ولا مسلماً على ذمي، ما جمعهما التخاصم، وضمهما التحاكم. ومن أحس منه بنقصان بيان، أو عجزٍ عن برهان، أو قصورٍ في علم، أو تأخر في فهم، صبر عليه حتى يستنبط ما عنده، ويستشق ضميره، وينقع بالإقناع غلته، ويزيح بالإيضاح علته. ومن أحس منه بلسنٍ وعبارةٍ وفضل من بلاغة، أعمل فيما يسمعه منه فكره، وأحضره ذهنه، وقابله بسد خلة خصمه، والإبانة لكل منهما عن صاحبه، ثم سلط على أقوالهما ودعاويهما تأمله، وأوقع على بيناتهما وحججهما تدبره، وأنفذ حينئذ الحكومة إنفاذاً يعلمان به أن الحق مستقر مقره، وأن الحكم موضوع موضعه؛ فلا يبقى للمحكوم عليه استرابة ولا للمحكوم له استزادة، وأن يأخذ نفسه مع ذلك بأطهر الخلائق وأحمدها، وأهدى السجايا وأرشدها، وأن يقصد في مشيه، ويغض من صوته، ويحذف الفضول من لفظه ولحظه، ويخفف من حركاته ولفتاته، ويتوقر من سائر جنباته وجهاته، ويتجنب الخرق والحدة، ويتوقى الفظاظة والشدة، ويلين كنفه من غير مهانة، ويرب هيبته في غير غلظة، ويتوخى في ذلك وقوفاً بين غايتيه، وتوسطاً بين طرفيه، فإنه يخاطب أخلاطاً من الناس مختلفين، وضروباً غير متفقين، ولا يخلو فيهم من الجاهل الأهوج، والمظلوم المحرج، والشيخ الهم، والناشئ الغر، والمرأة الركيكة، والرجل الضعيف النحيزة؛ وواجبٌ عليه أن يغمرهم بعقله، ويشملهم بعدله، ويقيمهم على الاستقامة بسياسته، ويعطف عليهم بحلمه ورياسته، وأن يجلس وقد نال من المطعم والمشرب طرفاً يقف به عند أول الكفاية، ولا يبلغ منه إلى آخر النهاية، وأن يعرض نفسه على أسباب الحاجة كلها، وعوارض البشرية بأسرها: لئلا يلم به من ذلك ملمٌ أو يطيف به طائفٌ فيحيلانه عن جلده، ويحولان بينه وبين سدده، وليكن همه إلى ما يقول ويقال له مصروفاً، وخاطره على ما يرد عليه ويصدر عنه موقوفاً؛ قال الله تعالى: {يَا دَاوُدُ إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً في الأْرْضِ فاحْكُمْ بَيْنَ الناسِ بِالْحَقِّ ولا تَتَّبع الْهوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الحِسَاب}.
وأمره إذا ثبت عنده حقٌ من الحقوق لأحدٍ من الخصوم، أن يكتب له متى التمس ذلك صاحب المعونة في عمله بأن يمكنه منه، ويحسم المعارضات فيه عنه، ويقبض كل يدٍ تمتد إلى منازعته، أو تتعدى إلى مجاذبته؛ فقد ندب الله الناس إلى معاونة المحق على المبطل، والمظلوم على الظالم؛ إذ يقول عز وجل: {وتَعَاوَنُوا عَلى البِرِّ والتَّقْوى ولا تَعَاوَنُوا عَلى الإْثْمِ والعُدْوان}.
وأمره أن يستصحب كاتباً درباً بالمحاضر والسجلات، ماهراً في القضايا والحكومات، عالماً بالشروط والحدود، عارفاً بما يجوز وما لا يجوز، غير مقصر عن القضاة المستورين، والشهود المقبولين، في طهارة ذيله، ونقاء جيبه، وتصونه عن خبث المآكل والمطاعم، ومقارفة الريب والتهم؛ فإن الكاتب زمام الحاكم الذي إليه مرجعه، وعليه معوله، وبه يحترس من دواهي الحيل، وكوامن الغيل، وحاجباً سديداً رشيداً، أديباً لبيباً، لا يسف إلى دنية ولا يلم بمنكرة، ولا يقبل رشوة، ولا يلتمس جعالةً، ولا يحجب عنه أحداً يحأول لقاءه في وقته، والوصول إليه في حينه، وخلفاء يرد إليهم ما بعد من العمل عن مقره، وأعجزه أن يتولى النظر فيه بنفسه، ينتخبهم من الأماثل، ويتخيرهم من الأفاضل، ويعهد إليهم في كل ما عهد فيه إليه، ويأخذهم بمثل ما أخذ به، ويجعل لكلٍ من هذه الطوائف رزقاً يكفه ويكفيه، وقوتاً يحجزه ويغنيه؛ فليس تلزمهم الحجة إلا مع إعطائهم الحاجة، ولا تؤخذ عليهم الوثيقة إلا مع إزاحة العلة؛ فقد قال الله تعالى: {وأنْ لَيْسَ لِلإنْسانِ إلاَّ ما سَعى * وأنَّ سَعْيَهُ سَوْفُ يُرى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الجَزَاءَ الأوْفى}.
وأمره بإقرار الشهود الموسومين بالعدالة على تعديلهم، وإمضاء القضاء بأقوالهم، وحملهم على ظاهر السلامة، وشعار الاستقامة، وأن يعتمد مع هذا البحث عن أديانهم، والفحص عن أماناتهم، والإصغاء إلى الأحاديث عنهم: من ثناءٍ يتكرر، أو قدح يتردد؛ فإذا تواتر عنده أحد الأمرين، ركن إلى المزكي الأمين، ونبا عن المتهم الظنين: فإنه إذا فعل ذلك اغتبط أهل الأمانة بأماناتهم، ونزع أهل الخيانة عن خياناتهم، وتقربوا إليه بما تنفق سوقه، ويستحق به التوجه عنده، واستمر شهوده وأمناؤه، وأتباعه وخلفاؤه، على المنهج الأوضح، والمسلك الأنجح، وتحصنت الأموال والحقوق، وصينت الحرمات والفروج؛ ومتى وقف لأحدٍ منهم على هفوة لا تغفر، وعثرةٍ لا تقال، أسقطه من عددهم، وأخرجه عن جملتهم، واعتاض منه من يحمد دينه، ويرتضي أمانته؛ قال الله تعالى: {وإمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلى سَوَاءٍ إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الخائِنِينَ}. وقال في الشهادة: {وأقِيمُوا الشَّهادَةَ للهِ}.
وأمره بالضبط لما يجري في عمله من الوقوف الثابتة في ديوان حكمه، والتعويل فيها على الأمناء الثقات، والحصفاء الكفاة، المعروفين بالظلف والورع، المتنزهين عن النظف والجشع، والتقدم إليهم في حفظ أصولها، وتوفير فروعها، وتثمير غلالها وارتفاعها، وصرفها إلى أهلها ومستحقها وفي وجوهها وسبلها، ومطالبتهم بحساب ما يجري على أيديهم، والاستقراء لآثارهم فيه وأفعالهم، وأن يحمد منهم من كفى وكف، ويذم من أضاع وأسف، وينزل كلاً منهم منزلته التي استحقها بعمله، واستوجبها بأثره، قال الله تبارك وتعالى: {إنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أن تُؤَدُّوا الأمَانَات إلى أهْلِهَا وَإذَا حََمْتُمْ بَيْنَ النَّاس أنْ تَحْكُمُوا بالعَدْل إنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً}.
وأمره بالاحتياط على أموال الأيتام، وإسنادها إلى أعف وأوثق القوام، والتقدم إلى كل طائفة بأن يجريهم مجرى ولده، ويقيمهم مقام سلالته في الشفقة عليهم، والإصلاح لشؤونهم، والإشراف على تأديبهم، وتلقينهم ما لا يسع المسلم جهله من الفرائض المفترضة، والسنن المؤكدة، وتخريجهم في أبواب معايشهم، وأسباب مصالحهم، والإنفاق عليهم من عرض أموالهم بالمعروف الذي لا شطط فيه ولا تبذير، ولا تضييق ولا تقتير؛ فإذا بلغوا مبالغ كمالهم، وأونس منهم الرشد في متصرفاتهم، أطلق لهم أموالهم، وأشهد بذلك عليهم؛ فقد جعله الله بما تقلده من الحكم، خلفاً من الآباء لذوي اليتم، وصار بهذه الولاية عليهم مسؤولاً عنهم، ومجزياً عما سار به فيهم، وأوصله من خير أو شرٍ إليهم؛ قال الله تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا الله وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُون أموالَ اليَتَامى ظُلْماً إنَّما يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ ناراً وسَيصْلَوْنَ سَعيراً}.
وأمره بحفظ ما في ديوانه من الوثائق والسجلات، والحجج والبينات، والوصايا والإقرارات: فإنها ودائع الرعية عنده، وواجبٌ أن يحرسها جهده، وأن يكلها إلى الخزان المأمونين، والحفظة المتيقظين، ويوعز إليهم بأن لا يخرجوا شيئاً منها عن موضعه ولا يضيفوا إليها ما لم يكن بعلمه، وأن يتخذ لها بيتاً يحصرها به، ويجعله بحيث يأمن عليه: ليرجع متى احتاج الرجوع إليه؛ فقد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لأمَاناتِهِمْ وعَهْدِهِمْ راعُون}.
وأمره إن ورد عليه أمرٌ يُعْييه فصلُه، ويشتبه عليه وجه الحكم فيه، أن يرده إلى كتاب الله، ويطلب به سبيل المخلص منه، فإن وجده وإلا ففي الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أدركه وإلا استفتى فيه من يليه من ذوي الفقه والفهم، والهداية والعلم؛ فما زالت الأئمة والحكام من السلف الصالح، وطراق السنن الواضح، يستفتي واحدٌ منهم واحداً، ويسترشد بعضٌ بعضاً، لزوماً للاجتهاد، وطلباً للصواب، وتحرزاً من الغلط، وتوقياً من العثار؛ قال الله تعالى: {فإنْ تَنَازَعْتُمْ في شَيْءٍ فرُدُّوده إلى اللهِ والرَّسُول}.
وأمره أن لا ينقض حكماً حكم به من كان قبله ولا يفسخه، وأن يعمل عليه ولا يعدل عنه، ما كان داخلاً في إجماع المسلمين، وسائغاً في أوضاع الدين؛ فإن خرج عن الإجماع، أوضح الحال فيه لمن بحضرته من الفقهاء والعلماء حتى يصيروا مثله في إنكاره، ويجتمعوا معه على إيجاب رده، ثم ينقضه حينئذ نقضاً يشيع ويذيع، ويعود به الأمر إلى واجبه، ويستقر معه الحقفي نصابه؛ قال الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الفاسِقُون}.
هذا عهد أمير المؤمنين إليك، وحجته عليك؛ قد شرح به صدرك، وأوضح به سبلك وأقام أعلام الهداية لك، ولم يألك تبصيراً وتذكيراً، ولم يدخرك تعريفاً وتوقيفاً، ولم يجعلك في شيءٍ من أمرك على شبهة تعترضك، ولا حيرة تعتاقك؛ والله شاهدٌ له بخروجه من الحق فيما وصى وعهد، وعليك بقبولك ما قبلت مما ولى وقلد؛ فإن عدلت واعتدلت- وذلك خليقٌ بك- فقد فاز وفزت معه، وإن تجانفت وزللت- وذلك بعيدٌ منك- فقد ربح وخسرت دونه؛ فلتكن التقوى زادك، والاحتراس شعارك، واستعن بالله يعنك، واستهده يهدك، واعتضد به يعضدك، واستمد من توفيقه يمددك؛ إن شاء الله تعالى.
وكتب نصير الدولة الناصح أبو طاهر يوم كذا من رجب سنة ست وستين وثلثمائة.
وهذه نسخة عهد بقضاء القضاة بحاضرة بغداد وسائر الأعمال شرقاً وغرباً كتب به عن الإمام الناصر لدين الله أحمد، للقاضي محيي الدين أبي عبد الله محمد بن فضلان، من إنشاء أستاد الدار عضد الدين بن الضحاك، وهي: هذا ما عهد عبد الله وخليفته في العالمين، المفترض الطاعة على الخلق أجمعين، أبو العباس أحمد الناصر لدين الله أمير المؤمني، إلى محمد بن يحيى ابن فضلان: حين سبر خلاله واستقراها، واعتبر طرائقه واستبراها، فألفاه رشيداً في مذاهبه، سديداً في أفعاله وضرائبه، موسوماً بالرصانة، حالياً بالورع والديانة، مبرزاً من العلوم في فنونها، عالماً بمفروض الشريعة المطهرة ومسنونها، مدرعاً ملابس العفاف، قد أناف على أمثاله في بوارع الأوصاف، فقلده قضاء القضاة في مدينة السلام وجميع البلاد والأعمال، والنواحي والأمصار: شرقاً وغرباً، وبعداً وقرباً، سكوناً إلى ما علم من حاله، واضطلاعه بالنهضة المنوطة به واستقلاله، وركوناً إلى قيامه بالواجب فيما أسند إليه، ونهوضه بعبء ما يعول في حفظ قوانينه عليه، واستنامةً إلى حلول الاصطناع عنده، ومصادفته منه مكاناً تبوأه بالاستحقاق وحده؛ والله تعالى يعضد آراء أمير المؤمنين بمزيد التوفيق في جميع الأمور، ويحسن له الخيرة فيما يؤمه من مناظم الدين وصلاح الجمهور؛ وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله عليه يتوكل وإليه ينيب.
أمره بتقوى الله تعالى في إعلانه وإسراره، وتقمص شعارها في إظهار أمره وإضماره؛ فإنها العروة الوثقى، والذخر الأبقى، والسعادة التي ما دونها فوزٌ ولا فوقها مرقى، وهي حلية الأبرار، وسيما الأخيار، والمنهج الواضح، والمتجر الرابح، والسبيل المؤدي إلى النجاة والخلاص، يوم لاوزر ولات حين مناص، وأنفع العدد والذخائر، وخير العتاد يوم تنشر الصحف وتبلى السرائر، يوم تشخص الأبصار، وتعدم الأنصار: {وَتَرى المُجْرِمِينَ يَوْمِئذٍ مُقَرَّنِينَ في الأْصْفَادِ * سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّار}، ولا ينجو من عذاب الله يومئذٍ إلا من كان زاده التقوى، وتمسك منها بالسبب الأقوى؛ قال الله تعالى: {وتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى واتَّقُونِ يا أُولِي الأْلْبَاب}.
وأمره أن يجعل كتاب الله إماماً يهتدي بمناره، ويستصبح ببواهر أنواره، ويستضيء في ظلم المشكلات بمنير مصباحه، ويقف عند حدود محظوره ومباحه، ويتخذه مثالاً يحتذيه، ودليلاً يتبع أثره فيهديه، ويعمل به في قضاياه وأحكامه، ويقتدي بأوامره في نقضه وإبرامه: فإنه دليل الهدى ورائده، وسائقٌ النجح وقائده، ومعدن العلم ومنبعه، ومنجم الرشاد ومطلعه، وأحد الثقلين اللذين خلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمة، والذكر الذي جعله الله تعالى تبياناً لكل شيءٍ وهدىً ورحمة، فقال عز من قائل: {ونَزَّلْنَا علَيْكَ الكِتَابَ تِبْياناً لكُلِّ شَيْءٍ وهُدىً ورَحْمةً وبُشْرى للمُسْلِمِين}.
وأمره بانتزاع الآثار النبوية صلوات الله على صاحبها وسلامه، والاهتداء بشموسها التي تنجلي بها دجنة كل مشكل وظلامه، والاقتداء بسنة الشريعة المتبوعة، وتصفح الأخبار المسموعة؛ والعمل منها بما قامت أدلة صحته من جميع جهاته، واستحكمت الثقة بنقلته عنه عليه السلام ورواته؛ وسلمت أسانيده من قدح، ورجاله من ظنة وجرح، فإنها التالية للقرآن المجيد في وجوب العمل بأوامره، والانتهاء بروادعه وزواجره؛ وهو عليه الصلاة والسلام الصادق الأمين الذي ما ضل وما غوى، وما ينطبق عن الهوى؛ وقد قرن الله سبحانه طاعته بطاعته، والعمل كتابه والأخذ بسنته؛ فقال عز من قائل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوه وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانْتَهُوا واتَّقُوا اللهَ إنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَاب}.
وأمره بمجالسة العلماء، ومباحثة الفقهاء، ومشاركتهم في الأمور المشكلة، وعوارض الحكومات المعضلة: لتستبين سبيل الصواب، ويعرى الحكم من ملابس الشبه والارتياب، ويخلص من خطأ الانفراد، وغوائل الاستبداد، فالمشورة باليمن مقرونة، والسلامة في مطاويها مضمونة؛ وقد أمر الله تعالى بها نبيه صلى الله عليه وسلم مع شرف منزلته وكمال عصمته، وتأييده بوحيه وملائكته فقال سبحانه: {وَشَاوِرْهُمْ في الأمْرِ فإذَا عَزَمْتَ فَتَوكَّلْ عَلى اللهِ إنَّ الله يُحِبُّ المُتَوكِّلين}.
وأمره بفتح بابه، ورفع حجابه، وأن يجلس للخصوم جلوساً عاماً، وينظر في أمورهم نظراً حسناً تاماً، مساوياً بينهم في نظره ولحظه، وإصغائه ولفظه، محترزاً من ذي اللسن وجرأة جنانه، متأنياً بذي الحصر عند إقامة برهانه، فربما كان أحد الخصمين ألحن بحجته، والآخر ضعيفاً عن مقاومته، هذا مقام الفحص والاستفهام، والتثبت وإمضاء الأحكام: ليسلم من خديعة محتال، وكيد مغتال، مائلاً في جميع ذلك مع الواجب، سالكاً طريق العدل اللاحب، غير فارق في إمضاء الحكم بين القوي والضعيف، والمشروف والشريف، والمالك والمملوك، والغني والصعلوك، قال الله تعالى: {إنْ يَكُنْ غَنِيّاً أوْ فَقِيراً فَاللهُ أوْلى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبعُوا الْهَوى أنْ تَعْدِلُوا}. وقال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكَافِرُون}.
وأمره أن يتصفح أحوال الشهود، المسموعة أقوالهم في الحقوق والحدود، المرجوع إلى أمانتهم، المعمول بشهادتهم، الذين بهم تقام الحجج وتدحض، وتبرم الأحكام وتنقض، وتثبت الدعاوى وتبطل، وتمضى القضايا وتسجل، مجتهداً في البحث عن طرائقهم وأحوالهم، وانتقاد تصاريفهم وأفعالهم، واستشفاف سجاياهم، وعرفان مزاياهم، مخصصاً بالتمييز من كان حميد الخلال، مرضي الفعال، راجعاً إلى ورع ودين، متمسكاً من الأمانة والنزاهة بالسبب المتين؛ قال الله تعالى: {وأشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}.
وأمره بالنظر في أمور اليتامى وأموالهم، ومراعاة شؤونهم وأحوالهم، وأن يرتب بسبب اتساق مصالحهم الثقات الأعفاء، والأمناء الأتقياء، ممن ظهرت ديانته، وحسنت سريرته، واشتهر بالظلف والعفاف، والتنزه عن الطمع والإسقاف، ويأمرهم بحفظها من خلل يتخللها، ويدٍ خائنةٍ تدخلها؛ وليكن عليهم حدباً، وفي فرط الحنو أباً؛ وخلفاً من آبائهم في الإشفاق عليهم، وحسن الالتفات إليهم: فإنه عنهم مسؤول، والعذر عند الله تعالى في إهمالهم غير مقبول، وأن يأذن لهم في الإنفاق عليهم بالمعروف من غير إسرافٍ ولا تقتير، ولا تضييقٍ ولا تبذير؛ فإذا بلغ أحدهم النكاح، وآنس منه أمارات الرشد والصلاح، دفع ماله إليه، وأشهد بقبضه عليه، على الوجه المنصوص، غير منقوص ولا منغوص، ممتثلاً أمر الله تعالى في قوله سبحانه: {فَإذَا دَفَعْتُمْ إلَيْهِمْ أمْوَالَهُمْ فأشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وكَفَى بِاللَّهِ حَسيباً}.
وأمره بتزويج الأيامى اللواتي لا أولياء لهن من أكفائهن، بمهور أمثالهن، وأن يشمل ذوات الغنى والفقر منهن بعدله، ويتحرى لهن المصلحة في عقده وحله.
وأمره أن يستنيب فيما بعد عنه من البلاد ودنا، وقرب منه ونأى، كل ذي علم واستبصار، وتيقظ في الحكم واستظهار، ونزاهةٍ شائعة، وأوصافٍ لأدوات الاستحقاق جامعة، ممن يتحقق نهوضه بذلك واضطلاعه، ويأمن استزلاله وانخداعه، وأن يعهد إليهم في ذلك بمثل ما عهد إليه ولا يألوهم تنبيهاً وتذكيراً، وإرشاداً وتبصيراً؛ قال الله تعالى: {وتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ والتَّقْوى ولاتَعَاوَنُوا على الإْثْم والعُدْوانِ}.
وأمره بإمضاء ما أمضاه قبله الحكام، من القضايا والأحكام، غير متعقب أحكامهم بنقض ولا تبديل، ولا تغيير ولا تأويل، إذا كانت جائزةً في بعض الأقوال، ممضاةً على وجهٍ من وجوه الاحتمال، غير خارقةٍ للإجماع، عاريةً من ملابس الابتداع، وإن كان ذلك منافياً لمذهبه، فقد سبق حكم الحاكم به؛ قال الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِك هُمُ الظَّالِمُون}.
وأمره أن يتخذ كاتباً قيماً بشروط القضايا والسجلات، عارفاً بما يتطرق نحوها من الشبه والتأويلات، ويتداخلها من النقص والتلبيسات، متحرزاً في كل حال، متنزهاً عن ذميم الأفعال، وأن يتخير حاجباً نقي الجيب، مأمون المشهد والغيب، مستشعراً للتقوى في السر والنجوى، سالكاً للطريقة المثلى، غير متجهم للناس، ولا معتمدٍ ما ينافي بسط الوجه لهم والإيناس: فإنه وصلتهم إليه، ووجهه المشهود قبل الدخول عليه؛ فلينتخبه من بين أصحابه، وممن يرتضيه من أمثاله وأضرابه.
وأمره بتسلم ديوان القضاء والحكم، والاستظهار على ما في خزائنه بالإثبات والختم، والاحتياط على ما به من المال والسجلات، والحجج والمحاضر والوكالات، والقبوض والوثائق والأثبات والكفالات، بمحضر من العدول الأمناء الثقات، وأن يرتب لذلك خازناً يؤدي الأمانة فيه، ويتوخى ما توجبه الديانة وتقتضيه.
وأمره بمراعاة أمر الحسبة: فإنها من أكبر المصالح وأهمها، وأجمعها لمنافع الخلق وأعمها، وأدعاها إلى تحصين أموالهم، وانتظام أحوالهم، وأن يأمر المستناب فيها باعتبار سائر المبيعات فيها: من الأقوات وغيرها في عامة الأوقات، وتحقيق أسباب الزيادة والنقصان في الأسعار، والتصدي لذلك على الدوام والاستمرار، وأن يجري الأمر فيها بحسب ما تقتضيه الحال الحاضرة، والموجبات الشائعة الظاهرة، واعتبار الموازين والمكاييل، وإعادة الزائد والناقص منها إلى التسوية والتعديل؛ فإن اطلع لأحد من المتعاملين على خيانةٍ في ذلك وفعل ذميم، أو تطفيف عدل فيه عن الوزن بالقسطاس المستقيم، أناله من التأديب، وأسباب التهذيب، ما يكون له رادعاً، ولغيره زاجراً وازعاً؛ قال الله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إذَا اكْتالُوا عَلى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإذَا كَالُوهُمْ أوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُون * ألا يَظُنُّ أُولئكَ أنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيم * يَوْمَ يَقُومُ الناسُ لِرَبِّ العالَمِين}.
وهذا عهد أمير المؤمنين إليك، وحجته عند الله تعالى عليك؛ قد أولاك من صنوف النعم والآلاء، وجزيل الكرم والحباء، ما يوجب عليك الاعتراف بقدره، واستيزاع شكره، ووقف بك على محجة الرشاد، وهداك إلى منهج الحق وسنن السداد، ولم يألك تثقيفاً وتبصيراً، وتنبيهاً وتذكيراً، فتأمل ذلك متدبراً، وقف عند حدود أوامره ونواهيه مستبصراً، وأعمل به في كل ما تأتيه وتذره، وتورده وتصدره، وكن للمخيلة في ارتيادك محققاً، وللمعتقد فيك مصدقاً، تفز من خير الدارين بمعلى القداح، وإحماد السرى عند الصباح؛ وحسب أمير المؤمنين الله ونعم الوكيل إن شاء الله تعالى.
الضرب الثاني مما كان يكتب بديوان الخلافة ببغداد لأرباب الوظائف من أصحاب الأقلام: التواقيع:
وطريقتهم فيها أن يفتتح التوقيع بلفظ أحق أو أولى أو أقمن من أفيضت عليه النعم أو من فوض إليه كذا أو من نوه بذكره ونحو ذلك من كان بصفة كذا وكذا ثم يقال: ولما كان فلانٌ بصفة كذا وكذا، فوض إليه كذا وكذا أو أسند إليه كذا وكذا ونحو ذلك.
وهذه نسخة توقيع بتدريس، كتب به عن الإمام الناصر لدين الله، للقاضي محيي الدين محمد بن فضلان بتدريس المدرسة النظأمية ببغداد، في سنة أربع عشرة وستمائة، وهي:
أحق من أفيضت عليه مجاسد النعم، وجذب بضبعه إلى مقام التنويه وتقدم القدم، من أسفر في أفضية الفضائل صباحه، وانتشر في العالم علمه وأزهر مصباحه.
ولما كان الأجل الأوحد، العالم، محيي الدين، حجة الإسلام، رئيس الأصحاب، مفتي الفريقين، مفيد العلوم، أبو عبد الله محمد بن يحيى بن فضلان، أدام الله رفعته، ممن نظم فرائد المحامد عقده النضيد، وأوى من العلم والعمل إلى ركن شديد، وثبتت قدمه من الديانة على مستثبت راسخ وقرارٍ مهيد- رؤي التعويل في تفويض التدريس بالمدرسة النظأمية إليه: ثقةً باضطلاعه واستقلاله، وتبريزه في حلبات الاستباق على نظرائه وأمثاله، وتراجع المساجلين له عن فوت غايته وبعد مناله، وأسند إليه- أدام الله رفعته- النظر في أوقاف المدرسة المذكورة بأجمعها، واعتماد ما شرطه الواقف في مصارفها وسبلها، سكوناً إلى كفايته، وركوناً إلى سداده وأمانته.
ورسم له تقديم تقوى الله تعالى التي ما زال منتهجاً لطرائقها، متمسكاً بعصمها ووثائقها، وأن يشرح صدره للمتعلمين، ولا تأخذه ضجرة من المستفيدين، ولا تعدو عيناه عن جهلاء الطالبين، ولا يتبرم بالمبالغة في تفهيم المبتدي، ولا يغفل عن تذكير المنتهى: فإنه إذا احتمل هذه المشقة، وأعطى كل تلميذ حقه، كان الله تعالى كفيلاً بمعونته، بحسب ما يعلم من حرصه عليهم وإخلاص نيته. ولكين بسائر المتفقهة معتنياً رفيقاً، وعليهم حدباً شفيقاً، يفرع لهم من الفقه ما وضح وتسهل، ويبين لهم ما التبس من غوامضه وأشكل، حتى تستنير قلوبهم بأضواء علوم الدين، وتنطق ألسنتهم فيها باللفظ الفصيح المبين، وتظهر آثار بركاته في مراشده وتبين؛ ولتتوفر همته في عمارة الوقوف واستنمائها، والتوفر على كل ما عاد بتزايدها وزكائها، بحيث يتضح مكان نظره فيها، ويبلغ الغاية الموفية على من تقدمه ويوفيها، ولا يستعين إلا بمن يؤدي الأمانة ويوفيها، ويقوم بشرائط الاستحفاظ ويكفيها؛ وهو- أدام الله رفعته- يجري من عوائد المدرسين والمتولين قبله على أوفى معهود، ويسامي به إلى أبعد مرتقًى ومقامٍ محمود، وأذن له في تنأول إيجاب التدريس ونظر الوقوف المذكورة؛ أسوة من تقدمه في التدريس والنظر في الوقوف، على ما شرط الواقف في كل ورد وصدر، واعتماد كل ما حده في ذلك ومثله من غير تجاوز.
النوع الرابع مما كان يكتب من ديوان الخلافة ببغداد: ما كان يكتب لزعماء أهل الذمة:
وطريقهم فيه أن يفتتح بلفظ: هذا كتابٌ أمر بكتبه فلانٌ أبو فلان الإمام الفلاني أمير المؤمنين لفلان ثم يقال: أما بعد فالحمد لله ويؤتى فيه بتحميدة أو ثلاث تحميداتٍ إن قصد المبالغة في قهر أهل الذمة بدخولهم تحت ذمة الإسلام وانقيادهم إليه، ثم يذكر نظر الخليفة في صالح الرعية حتى أهل لذمة، وأنه أنهي إليه حال فلان وسئل في توليته على طائفته فولاه عليهم للميزة على غيره من أبناء طائفته ونحو ذلك؛ ثم يوصيه بما يناسبه من الوصايا.
وهذه نسخة من ذلك، كتب بها عن القائم بأمر الله، لعبد يشوع الجاثليق، من إنشاء العلاء بن موصلايا، وهي: هذا كتابٌ أمر بكتبه عبد الله أبو جعفرٍ عبد الله الإمام القائم بأمر الله أمير المؤمنين، لعبد يشوع الجاثليق الفطرك.
أما بعد، فالحمد لله الواحد بغير ثان، القديم لاعن وجود زمان، الذي قصرت صنيعة الأوهام، عن إدراكه وحارت، وضلت صنيعة الأفهام، عن بلوغ مدى صفاته وحالت، المتنزه عن الولد والصاحبة، العاجزة عن إحاطة العلم به دلائل العقول الضافية الصائبة، ذي المشيئة الحالية بالمضاء، والقدرة الجارية عليها تصاريف القدر والقضاء، والعظمة الغنية عن العون والظهير، المتعالي بها عن الكفء والنظير، والعزة المكتفية عن العضد والنصير، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وهُوَ السَّمِيعُ البَصِير}.
والحمد لله الذي اختار الإسلام ديناً وارتضاه، وشام به عضب الحق على الباطل وانتضاه، وأرسل محمداً صلى الله عليه وسلم منقذاً من أشراك الضلة، وكاشفاً عن الإيمان ما غمره من الإشراك وأظله، وبعثه ماحياً أثر الكفر من القلوب والأسماع، وناحياً في اتباع أوامره ماجد في البدار إليه والإسراع، وأدى ما حمله أحسن الأداء، وداوى بمعجز النبوة من النفوس معضل الداء، ولم يزل لأعلام الهدى مبيناً، ولحبائل الغي حاسماً مبيناً، إلى أن خلص الحق وصفا، وغدا الدين من أضداده منتصفاً، واتضح للحائر سنن الرشد، وانقاد الأبي باللين والأشد، فصلى الله عليه وعلى آله الطاهرين، وأصحابه المنتخبين، وخلفائه الأئمة الراشدين؛ وسلم تسليماً.
والحمد لله الذي استخلص أمير المؤمنين من أزكى الدوحة والأرومة، وأحله من عز الإمامة ذروةً للمجد غير مرومة، وأصار إليه من تراث النبوة ما حواه بالاستحقاق والوجوب، وأصاب به من مرامي الصلاح ما حميت شموسه من الأفول والوجوب، وأولاه من شرف الخلافة ما استقدم به الفخر فلبى، واستخدم معه الدهر فما تأبى، ومنح أيامه من ظهور العدل فيها وانتشاره، ولقاح حوامل الإنصاف فيها ووضع عشاره، ما فضل به العصور الخالية، وظلت السير متضمنةً من ذكرها ما كانت من مثله عاريةً خالية، وهو يستديمه- سبحانه- المعونة على ما يقرب لديه ويزلف عنده، ويستمد التوفيق الذي يغدو لعزائمه الميمونة أوفى العضد والعدة؛ وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله عليه يتوكل وإليه ينيب.
وأمير المؤمنين مع ما أوجب الله تعالى عليه من اختصاص رعاياه بأكنافه التي يمد عليهم رواقها، ويرد بها إلى أغصان صلاحهم أوراقها، ويلقي على أجيادهم عقودها، ويقي رياح ائتلافهم ركودها، يرى أن يولي أولي الاستقامة من أهل ذمته ضروب الرأفة وصنوفها، وأقسام العاطفة الدافعة عنهم حوادث الغير وصروفها، بمقتضى عهودهم القوية القوى، وأذمتهم التي يلزم أن يحافظ عليها أهل العدل والتقوى، ويغتمدهم من الضرر الغامر، والإجمام المضاهي الآن ف منه الغابر؛ بما يقبض يد الضيم وكفه ويفيض عليهم من الملاحظة كل ما حسم الضير دونهم وكفه وأن يحبوهم من الحياطة بما يحرس رسومهم المستمرة من أسباب الاختلال، ويجريهم فيها على ماسنه السلف معهم من مألوف السجايا والخلال.
ولما أنهي إلى حضرة أمير المؤمنين تمييزك عن نظرائك، وتحليك من السداد بما يستوجب معه أمثالك المبالغة في وصفك وإطرائك، وتخصصك بالأنحاء التي فت فيها شأو أقرانك، وأفدت بها ما قصر معه مساجلك من أبناء جنسك أن يعدلك في ميزانك، وما عليه أهل نحلتك من حاجتهم إلى جاثليق كافلٍ بأمورهم، كاف في سياسة جمهورهم، مستقلٍ بما يلزمه القيام به، غير مقلٍ بما يتعين مثله في أدوات منصبه، وأن كلاً ممن يرجع إليه منهم لما تصفع أحوال متقدمي دينهم واستشف، وأعمل الفكر في اختيار الأرجح منهم والأشف، واتفقوا من بعد على إجالة الرأي الذي أفاضوا بينهم قداحه، وراضوا به زند الاجتهاد إلى أن أورى حين راموا اقتداحه، فلم يصادفوا من هو بالرياسة عليهم أحق وأحرى، وللشروط الموجبة التقديم فيهم أجمع وأحوى، وعن أموال وقوفهم أعف وأورع، ومن نفسه لداعي التحري فيها أطوع وأتبع، منك؛ اختاروك لهم راعياً، ولما شد نظامهم ملاحظاً مراعياً، وسألوا إمضاء نصهم عليك والإذن فيه، وإجراء الأمر فيما يخصك أسد مجاريه، وترتيبك فيما أهلت له وحملت ثقله، واختصاصك على من تقدمك من الأضراب، بمزيدٍ من الإرعاء والإيجاب، وحملك وأهل نحلتك على الشروط المعتادة، والرسوم التي إمضاء الشريعة لها أوفى الشهادة، رأى أمير المؤمنين الإجابة إلى ما وجهت إليه فيه الرغبة، واستخارة الله تعالى في كل عزم يطلق شباه ويمضي غربه، مقتدياً فيما أسداه إليك، وأسناه من أنعمه لديك، بأفعال الأئمة الماضين، والخلفاء الراشدين، صلوات الله عليهم أجمعين، مع أمثالك من الجثالقة الذين سبقوا، وفي مقامك اتسقوا، وأوعز بترتيبك جاثليقاً لنسطور النصارى بمدينة السلام وسائر البلاد والأصقاع، وزعيماً لهم وللروم واليعاقبة طراً، ولكل من تحويه ديار الإسلام من هاتين الطائفتين ممن بها يستقر وإليها يطرا، وجعل أمرك فيهم ممتثلاً، وموضعك من الرياسة عليهم متأثلاً، وأن تنفرد بالتقدم على هذه الطوائف أجمع: ليكون قولك فيما يجيزه الشرع فيهم يقبل وإليك في أحوالهم يرجع، وأن تتميز بأهبة الزعامة، في مجامع النصارى ومصلياتهم عامةً، من غير أن يشركك فيها أو يشاكلك في النسبة الدالة عليها مطرانٌ أو أسقفٌ للروم أو اليعاقبة: لتغدو شواهد ولايتك بالأوامر الإمامية باديةً للسامع والناظر، وآثار قصورهم عن هذه الرتبة التي لم يبلغوها كافةً للمجادل منهم والمناظر، ومنعوا بأسرهم عن مساواتك في كل أمر هو من شروط الزعامة ورسومها، والتزيي بما هو من علاماتها ووسومها؛ إذ لا سبيل لأحدهم أن يمد في مباراتك باعه، ولا أن يخرج عن الموجب عليه من الطاعة لك والتباعة، وحملك في ذاك على ما يدل عليه المنشور المنشأ لمن تقدمك، الممضى لك ولكل من يأتي بعدك، المجدد بما حواه ذكر ما نطقت به المناشير المقررة في أيام الخلفاء الراشدين، صلوات الله عليهم أجمعين، لمن تقدمك في مقامك، وأحرز سبق مغزاك ومرامك: من كون المنصوب في الجثلقة إليه الزعامة على ما تضمه ديار الإسلام من هذه الفرق جمعا، والمنصوص عليه في التقدم الذي ليس لغيره من رياضه مرعى؛ وتقدم أمير المؤمنين بحياطتك وأهل نحلتك في نفوسكم وأموالكم وبيعكم، ودياركم ومقار صلواتكم وحراسة أموالكم، واعتمادكم بأقسام الكلاءة على أجمل الرسم معكم، وأن تحموا من نقض سنة رضية قررت لكم، ودحض وتيرةٍ حميدةٍ استعملت في فرضكم، وأن تقبض الجزية من رجالكم ذوي القدرة على أدائها بحسب ما جرت به عاداتكم دون النساء ومن لم يبلغ الحلم دفعة واحدة في السنة، وتجروا في ذلك على السجية التي تناقلها الرواة وتداولتها الألسنة، من غير تثنية ولا تكرير، ولا ترنيق لمنهل المعدلة عندكم ولا تكدير، وأن تحبى بالشد دائماً وتقوية يدك على من نصبته في أمورهم ناظراً ولشملهم ناظماً؛ ويفسح لك في فصل ما يشجر بينهم على سبيل الوساطة: لتقصد في ذاك ما يحسم دواعي الخلف ويطوي بساطه، وأن تمضي تثقيفك لهم وأمرك فيهم، أسوة ما جرى عليه الأمر مع من كان قبلك يليهم، لتحسن معه السيرة العادلة عليهم بحفظ السوام، المطابقة للشروط السائغة في دين الإسلام.
وأمر بإنشاء هذا الكتاب مشتملاً على ما خصك به، وأمضى أن تعامل بموجبه، فقابل نعمة أمير المؤمنين عندك بما تستوجبه من شكرٍ تبلغ فيه المدى الأقصى، وبشرٍ لا يوجد التصفح له عندك قصوراً ولا نقصاً، وواظب على الاعتراف بما أوليته من كل ما جملك، وصدق ظنك وأملك، واستزد الإنعام بطاعةٍ تطوي عليها الجوانح، وأدعيةٍ لأيامه تتبع الغادي منها بالرائح، وتجنب التقصير فيما بك عدق، وإليك وكل وعليك علق؛ واحتفظ بهذا الكتاب جنة تمنع عنك ريب الدهر وغيره، وحجةً تحمل فيها على ما يحمي ما منحته من كل ما شعثه وغبره؛ وليعمل بهذا المثال كافة المطارنة والأساقفة والقسيسين، والنصارى أجمعين، وليعتمدوا من التباعة لك ما يستحقه تقديمك على الجماعة، وليثقوا بما يغمرهم من العاطفة الحأمية سربهم من التفريق والإضاعة؛ إن شاء الله تعالى.
وكتب في شهر ربيع الأول سنة سبع وستين وأربعمائة.